في محراب الصبر
الشيخ محمد الوجيه
1447/05/15 - 2025/11/06 19:51PM
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الأولِ والآخرِ، الظاهرِ والباطنِ، لهُ الكمالُ والجلالُ والعزةُ والقوةُ. نحمدُهُ حمداً لا تنقضي أسرارُهُ، ونشكرُهُ شكراً لا تنتهي أنوارُهُ.
إلهي، لكَ الحمدُ حمداً يليقُ بكَ يا منْ وعدتَ الصابرينَ بالعِوَضِ الجزيلِ، وجعلتَ لهم جنةً عرضُها السماواتُ والأرضُ. نحمدُكَ يا من جعلتَ الصبرَ مركبَ النجاةِ، والاحتسابَ ثمنَ الأجرِ، وكلمةَ التوحيدِ أساسَ الثباتِ.
نُعظِّمُكَ ونُمجِّدُكَ يا خالقَ الكونِ ومُقدِّرَ الأقدارِ، لكَ العظمةُ في البلاءِ والرخاءِ، ولكَ الحكمةُ في العطاءِ والحرمانِ. فكلُّ أمرٍ من لدنكَ خيرٌ، وكلُّ قضاءِ منكَ عدلٌ. نشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا أنتَ، إقراراً بالوحدانيةِ وطلباً للمعيَّةِ التي لا تُنالُ إلا بالصبرِ وحُسنِ العبادةِ.
وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُكَ ورسولُكَ، صلى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ، صلاةً تليقُ بمقامِهِ، وتُنجينا يومَ لقائِهِ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 102).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 70-71)
أما بعد، عباد الله: قفوا معي لحظة عند مائدة القرآن الكريم، حيث تتجلى العظمة في اختيار الألفاظ، وتترسخ الحكمة في عُمق المعاني. اليوم، حديثنا عن خُلقٍ لو وزنَ بالإيمان، لكان شطرَه، ولو قُدِّر بالجسد لكان رأسَه. إنه خُلُقُ الصَّبرِ، ذلك الركنُ الركينُ الذي لا يقومُ بناءُ العبادة إلا عليه.
ما هو الصبرُ أيها المؤمنون؟ إنه ليس مجرد تحملٍ سلبيٍ للآلام، ولا استسلامٍ باردٍ للخطوب. بل هو قوةٌ قلبيةٌ هائلة، وإرادةٌ صُلبةٌ لا تنحني، وعزيمةٌ مؤمنةٌ ترفضُ الجزعَ والخور. إنه ذلك الدرعُ الحصينُ الذي يقي النفسَ سهامَ اليأس، وتلك الشجرةُ المُباركةُ التي وإن طالَ عليها ليلُ البلاء، فإن ثمرتَها يانعةٌ في جنان الخلود.
لقد ورد ذكر الصبر في كتاب ربنا في مواضع لا تُحصى، وما ذلك إلا لعظم مكانته وشمول تأثيره. واقرنوا معي أيها الأحبة بين الركنين العظيمين، فقد أمرنا الله بالاستعانة بهما عند نزول الملمات وشدة الأزمات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 153).
فانظروا إلى هذا الإرشاد الإلهي: الصبرُ هو الإمساكُ والتحمل، والصلاةُ هي الانطلاقُ واللجوء. هما جناحان يطيرُ بهما المؤمنُ إلى مرضاة الله، ويسكّنُ بهما فزعَ قلبه. وأعظمُ البلاغةِ والوعدِ هنا، هو خاتمةُ الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. إنها ليست معيةً عامة، بل معيةٌ خاصةٌ تتجسدُ في النصرةِ، والتأييدِ، والتوفيقِ، والرضا، فهل بعد معيةِ الله غايةٌ تُطلب؟!
أيها المؤمنون: إنَّ طبيعةَ الحياةِ الدنيا هي الابتلاءُ والاختبار، فلا تطلبوا دنيا بغير كدٍ ولا بلاء، فالله قد أقسمَ بصدقِ الابتلاءِ وحتميةِ الوقوعِ فيه:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).
ثم بيَّنَ سبحانه حالَ الصابرينَ الذين يستحقون البشارة، فإذا دهمتهم المصيبة، وإذا اجتاحتهم الكربة، لم تفلت ألسنتهم إلى التسخط أو الجزع، بل لجأوا إلى قلعةِ التسليمِ والاحتساب، وقالوا بملءِ اليقين:
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 156).
إنه اعترافٌ بالعبوديةِ المُطلقة: ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾، وتذكيرٌ بحتميةِ المصير: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. ولقد قال المفسرون: إنهم "تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء". فالمؤمنُ لا يرى نفسَه إلا عَبْداً مملوكاً يتصرفُ فيه مالكُه كيف شاء، فكيف يجزعُ الملوكُ من تصرفاتِ المالك؟!
أيها الصابرون، أما جزاؤكم فإنه ليس كيلاً ولا وزناً، وليس عدداً ولا حصراً، بل هو فيضٌ ربانيٌ وعطاءٌ غير محدود، يقطعُ الشكَّ باليقين ويُلغي قيودَ الحساب، قال عز من قائل:
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: 10).
عباد الله:
إن خلقَ الصبرِ شجرةٌ باسقةٌ لا تُؤتي أُكُلَها إلا بالريّ والمجاهدة، وهو يتفرعُ إلى ثلاثةِ فروعٍ رئيسيةٍ، تُشكّلُ مجملَ حياةِ المؤمنِ وعبوديته:
أولُها وأشقُها: الصبرُ على الطاعات والعبادات. فكم من نفسٍ تتقاعسُ عن القيام، وتتكاسلُ عن الصيام، وتتأخرُ عن أداء الصلاة في وقتها، فالصبرُ هنا هو صبرُ المجاهدةِ والمصابرةِ على النفس الأمارة بالسوء، وإلزامها الحق.
وثانيها وأبرُها: الصبرُ عن المعاصي والمحرمات. وهذا هو جهادُ النفسِ الأكبر، لأن المعصيةَ تُوافقُ الأهواءَ وتستجيبُ لنداءاتِ الشهوة. فصبرُ العينِ عن الحرام، وصبرُ اللسانِ عن الغيبة والبهتان، وصبرُ اليدِ عن الظلم والعدوان، هو صراعٌ يوميٌ يرفعُ الله به الدرجات. وصدق القائل: "الصبر صبران... وصبر عن المعصية، وهذا أفضل من ذاك".
وثالثها وأكثرها تداولاً: الصبرُ على الأقدارِ المؤلمةِ والمصائب. من فقدٍ لحبيب، أو نقصٍ في رزق، أو بلاءٍ في جسد. وهذا هو المقام الذي يتجلى فيه إيمانُ المؤمن، ويُثبِّتُ فيه ربُّنا القلوب. ويُبين لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عظمة هذا المقام بقوله: «وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصبر». فهل ندركُ قيمةَ هذا العطاء؟ إنه هبةُ الثباتِ والرضا.
يا طلابَ الصبرِ،
عودوا إلى وصيةِ الحكماءِ والناجين، فما نالوا الفرجَ إلا به. واذكروا قول الشافعي رحمه الله: "صَبراً جَميلاً ما أَقرَبَ الفَرَجا، مَن راقَبَ اللَهَ في الأُمورِ نَجا". فإنما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى، وليس بعد فواتِ الأوان. اجعلوا قلوبكم مُعلّقةً بيقينٍ لا يتزعزع، بأنَّ عاقبةَ الصبرِ نصرٌ، ونتيجةَ التحملِ أجرٌ، وثمرةَ البلاءِ تكفيرٌ للخطايا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
عباد الله: إذا أردنا أن نرى الصبر متجسداً لا كلاماً، وواقعاً لا أحلاماً، فلننظر إلى سير من سبقونا، الذين جعلوا من الابتلاء سلماً للارتقاء.
ألا ترون نبي الله أيوب عليه السلام؟ لقد أثقلته الأمراض، وأنهكت جسدَه الأسقام، وفقد ماله وولدَه، واعتزله الناسُ إلا قليلاً، فكان في قمة البلاء، ومع ذلك لم يخرج من لسانه حرفُ شكوى، ولا من قلبه خيطُ جزع. ظلَّ لسانه يلهجُ بالحمد والثناء، حتى استحيا البلاءُ من صبره. وعندما دعا، لم يدعُ بتعجيل الفرج أو الشفاء، بل أدبُ العبوديةِ جعله يقول: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأنبياء: 83). فكان جزاؤه شفاءً كاملاً ورداً لماله وولده ومِثلَهم معهم، جزاءً للصابرين.
وانظروا إلى سيد الصابرين وإمامهم، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي وُضع سَلَا الجزور على ظهره وهو ساجد، وطُرِد من بلده، ورُمي بالحجارة حتى سال الدمُ من عقبيه. ومع كل ذلك، كان رده العظيم في الطائف: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس". ثم قال بقلب الواثق: "إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي". إنه الصبرُ المقرونُ بالتوكلِ والتسليم، الذي يجعلك لا تبالي بالمخلوق طالما أن الخالقَ راضٍ.
لقد كان الصبر عند السلف تاجاً يُتوجُون به مصائبهم. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمير المؤمنين، يقول في يقين: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". وما أصدقها من عبارة، فهي تُعلنُ أن راحةَ القلبِ وسعادةَ الروح لا تُشترى بالمال، بل تُكتسبُ بمجاهدة النفس على الصبرِ والثبات.
اللهُمَّ يا من بيده مفاتيح الفرج، وإليه تُرفعُ الشكوى، ويا من وعد الصابرين بأجر بغير حساب.
اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم، أن تمنَّ علينا بفضيلة الصبر، وأن تجعله لنا ضياءً ونوراً في طريقنا، وعوناً لنا على نوائب الدهر.
اللهُمَّ أعنّا على الصبر في مواطن الطاعة، ويسّر لنا الثبات في مواجهة المعصية، واجعلنا من الراضين بقضائك وقدرك عند حلول المصيبة، القائلين بقلوبٍ موقنة: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
اللهم اجعلنا ممن استعانوا بالصبر والصلاة، وحازوا معيَّتَك الخاصة يا أرحم الراحمين. واجمع لنا بين الصلواتِ والرحمةِ والهدايةِ التي وعدتَ بها الصابرين.
اللهُمَّ لا تجعلنا ممن يجزعُ عند البلاء، ولا ممن ييأسُ عند الشدة، بل اجعلنا كالأشجار ثابتةَ الجذور، لا تحركها الأعاصير، ولا تكسرها الفتن.
اللهم إن كانت أقدارنا فيها ابتلاءات، فاجعلها كفارةً لسيئاتنا، ورفعةً لدرجاتنا، واجعل خيرَ أعمارنا أواخرها، وخيرَ أعمالنا خواتيمها.
اللهُمَّ آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1762487983_مستند بلا عنوان.pdf