قلوب معلقة
د.عبدالحميد المحيمد
إن الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده اللّه فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللَّهم صلَّ على محمدٍ وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، في العالمين إنك حميدٌ مجيد، اللَّهم بارك على محمدٍ وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، في العالمين إنك حميدٌ مجيد .
عباد اللّه ، أوصيكم ونفسي بتقوى اللّه.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ "
أيها الأحبة في اللَّه، القلوبُ تتعلّق، والقلوبُ تنجذب؛ فهناك قلوبٌ تعلّقت بذكر اللَّه فاطمأنّت:
" أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "
وهناك قلوبٌ تاهت وتعلّقت بالدنيا، وغابت وضيّعت التوحيد، فهذه القلوبُ تائهة، ومثلها كمثل ريشةٍ تلعب بها الرياح:
" وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ "
إنّ القلبَ إن لم يتعلّق بالخير، تعلّق بالشرّ، وسُمِّي القلبُ قلبًا لكثرة تقلّبه واضطرابه. ولذلك، لا طمأنينةَ للقلب إلا بالتعلّق باللَّه، وبذكر اللَّه، وبالقرآن، فإنه يأنس بذلك.
وما أثرُ القلبِ في الجسد؟ يقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم:
«ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ».
فصلاحُ القلب يعني صلاحَ سائر الجوارح، فإذا صلح القلبُ تبعته الجوارح.
فأين تعلّقُ قلبِك، أخي المسلم؟
هل علّقته بالمساجد، وبزوايا المساجد، وبصلاة الجماعة؟
يقول سعيد بن المسيّب رحمه اللَّه:
«ما فاتتني صلاةُ الجماعة منذ أربعين سنة»
لأن قلبه تعلّق بالمساجد، كما ذُكر في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه اللَّه.
والقلبُ المعلّق بالمساجد يكون صاحبُه في ظلّ الرحمن، في ظلّ اللَّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، وهذا يشمل الرجال والنساء.
فالمرأةُ التي تعلّق قلبها بالصلاة — وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد — إذا تعلّق قلبُها بالصلاة، فإنّ لها الأجرَ نفسه، كما ذكر سماحة الشيخ ابن باز رحمه اللَّه.
وهناك من تعلّق قلبُه بالقرآن، لا يمرّ عليه يومٌ ولا تغيب عليه شمسٌ إلا وقد نظر في صفحات المصحف، وقرأ من القرآن ما يشرح صدره ويُريحه.
وهناك من تعلّق قلبُه بالجوال؛ لا يستطيع إلا أن ينظر فيه، لا شعوريًّا، مدمنٌ على الجوال.
كلّما كان في مجلسٍ، لا تكاد تمرّ لحظة إلا وهو ينظر في الجوال؛ لا لشيءٍ ولا لمعلومة، ولا بحثٍ عن أمرٍ، ولا اتصال، إنّما المهمّ أن يطمئنّ إلى أنّ الجوال بيده، وإذا نام، التصق الجوالُ برأسه، وإذا استيقظ، كان أوّل ما ينظر إليه هو الجوال، بدل أن يقول أذكار الاستيقاظ، ويذكر اللَّه، ثم يقوم ليتوضّأ ليدرك صلاة الفجر.
فهذه قلوبٌ معلَّقة… ولكن بماذا تعلّقت؟!
قلبٌ تعلّق بالقرآن؛ فالقرآنُ يبقى معه في قبره، ويدفع عنه العذاب، ويكون شفيعًا له يوم القيامة.
وأمّا القلبُ المتعلّق بالجوال، فليعلم أن آخر لحظةٍ يبقى فيها معه الجوال هي إلى أن يموت، فإذا مات، بقي الجوالُ مع الميراث جرّدوه من اللباس، ولفّوه في الكفن، والكفنُ ليس فيه مكانٌ للجوال، والقبر لا مكان فيه للجوال، تبقى أنت وأعمالك، ويبقى معك القرآنُ يدفع عنك العذاب، لأنك كنت تقرأه، وكنت تتدبّره.
قال: فيُمنَع عنك العذاب، إذًا علق قلبُك بما ينفعك يوم القيامة .
رجلٌ تعلّق قلبُه بالدنيا، وكان عنده من الخير والمال والعقارات والشقق التي يؤجّرها، ولكن قلبه تعلّق بها؛ لم تكن في يده، بل كانت في قلبه ، لم يتعلّق قلبُه بالإنفاق، ولا بإيواء اليتامى، ولا بإطعام المساكين، ولا بالإنفاق في سبيل اللَّه.
ولمّا حضرته الوفاة، كانوا يذكّرونه باللَّه وهو على فراش الموت، وكان كلّما أفاق يقول لهم: الشقّة الفلانية في المنطقة الفلانية، لم يصلني إيجارها إلى الآن، فبقي على هذه الحال حتى مات.
ما تعلّق به قلبُك الآن، هو ما ستشعر به في لحظات النزع، وفي لحظات الموت، فإن علّقته ب” لا إله إلا اللَّه “ وبالتوحيد، فإن التوحيد يبقى معك عند لحظات الموت.
وكم من إنسانٍ خُدّر بالبنج، وكان في المستشفى، فلمّا وُضع له التخدير وخرج، أخذ يتكلّم بلا وعي؛فمنهم من كان يؤذّن، ومنهم من كان يذكر اللَّه، ومنهم من كان يقرأ القرآن، ومنهم من كان يغنّي، ومنهم من كان يخاصم ويلاسن كأنه في شحناء. فهذه صورةٌ مصغّرة لما يحدث معك عند لحظات الموت.
فنسأل اللَّه حسنَ الخاتمة، وأن يتوبَ علينا، إنّه هو التوّاب الرحيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر اللَّه .
الخطبة الثانية
الحمدُ للَّه، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللَّه ، وعلى آله و صحبه ومن والاه .
سفيانُ الثوريُّ رحمه اللَّه، وهو من كبار المحدّثين، قال:
«ما من أحدٍ يطلب الحديث — يطلب حديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم وينشره — إلا كان في وجهه نضرة أو نضارة» أي إشراقٌ وجمال،
لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال:«نضَّرَ اللَّهُ امرأً سَمعَ منَّا حَديثًا فبلَّغَهُ».
فهذا الذي يبلّغ حديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم يجد النضارة والإشراق والجمال في وجهه، لأن قلبه تعلّق بالسنة، ومن تعلّق قلبُه بحبّ الصحابة، فإنه يلقاهم يوم القيامة بإذن اللَّه، لأن المرء يُحشر مع من أحبّ.
ولمّا حضرت الوفاةُ بلالًا رضي اللَّه عنه — وكان قد سكن الشام وتوفّي بها — جعلت امرأته تبكي وتقول: وا كرباه!
وا مصيبتاه! فقال لها: «لا تقولي هذا، ولكن قولي: وا شوقاه! غدًا ألقى الأحبّة، محمدًا وصحبه».
صلى اللَّه على نبينا محمد.
فعلّقوا قلوبَكم بما ينفعكم يوم القيامة، علّقوها باللَّه، وبالقرآن، وبسنة النبي محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم، وبذكر اللَّه، حتى تطمئنَّ هذه القلوب، وتصلحَ هذه الأجساد.
أسأل اللَّه أن يُصلح قلوبَنا، وأن يتوبَ علينا، وأن يُحسنَ ختامنا، وأن يُفرّج عنّا، اللَّهم فرّج عن المكروبين، اللَّهم فرّج عن إخواننا في السودان، اللَّهم انصر إخواننا في كل مكان، اللَّهم احفظ هذا البلدَ وبلادَ المسلمين.
اللَّهم اسقِنا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهم اسقِنا الغيثَ المغيثَ، السَّحَّ الغَدَق، يا رحمنُ يا رحيم،
اللَّهم أغِثْنا، اللَّهم أغِثْنا، اللَّهم أغِثْنا، يا رحمن يا رحيم، اللَّهم أغِثْنا غيثًا عاجلًا نافعًا، برحمتك يا حيّ يا قيوم، يا وليّ يا حميد.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للَّه ربِّ العالمين، وصلى اللَّه على نبينا محمد.
المرفقات
1762536790_قلوب معلقة.docx