كِبَارُ السِّنِّ؛ خَيْرٌ وخِبْرَةٌ وبَرَكَةٌ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1447/03/12 - 2025/09/04 14:31PM

الحمدُ للهِ القائلِ: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا "وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعالى وتقدّس عما يُشْرِكون، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله وسلّمَ عليه وعلى آله وصحابتِهِ وتابِعوهم المؤمنونَ؛ ما تعاقبت السُّنُونُ؛ إلى يومٍ تَشِيْبُ فيه البنونُ.

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسيَ بتقوى اللهِ؛ "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ"

 معاشرَ المؤمنينَ: وَصَفَ اللهُ مَرْحَلَةَ الشَّيْخُوخَةِ بالضَّعْفِ والشَّيْبِ؛ فَقَالَ سُبحانَه: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ" هذا حالُ الإنسانِ إذا امْتَدَّ به العُمُرُ؛ تَضعُفُ الهِمَّةُ، والحَرَكَةُ، والبَطْشُ، وَتَشِيْبُ الِّلَمَّةُ ، وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ والبَاطِنَةُ، وهذهِ المَرحلَةُ مرحلةٌ تَستَجلِبُ العَطْفَ والرَّحمَةَ؛ فَبِنْتَا الرَّجُلِ الصّالحِ شُعيْبٍ؛ قَالتَا: "لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ" وإخوةُ يوسفَ عليه السّلامُ قالوا:  يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" وزِكريَّا عليهِ السّلامُ استَحْضرَ في دعائهِ اللهَ تعالى حالَهُ في شَيْخوختِهِ، فقالَ: "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا" 

عبادَ اللهِ: يا لَهَا مِنْ حَقيقةٍ مؤلمَةٍ؛ بعدَ الشِّدةِ والبأسِ، وبعدَ القوَّةِ والعُنْفُوانِ، وبَعْدَ الأمْرِ والنَّهيِ، وبعْدَ الشَّكِيْمَةِ وقُوَّةِ الشَّخصيةِ، وبعدَ الاستقلالِ بالرأيْ واتّخاذِ القرارِ؛ يَتَلاشَى ذلك كلُّه، ويعودُ المرءُ مُحتاجاً إلى غيرِه، فاقداً لكثيرٍ مِنْ قُواهُ، مُنْشَغلاً بضَعْفِهِ، ومَرَضِه، مُتحَسِّباً لِكلِّ نَغْزَةٍ وَوَخْزَةٍ، مُتَحَسِّسَاً مِنْ كلِّ وجَعٍ وألَمٍ.

هذهِ المَرْحَلَةُ المُهمّةُ مِنْ حياةِ الإنسانِ؛ أَوْلاهَا الإسلامُ عنايةً كبيرةً، وَخَصَّها بوصاياً هامّةً، وعُنيَ بها عنايةً فائقةً، فقدْ بيّنَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّمَ مَكانَةَ المسنّينَ في الإسلامِ، وأجرَهم عندَ اللهِ، فقالَ: " ومن شابَ شيبةً في سبيلِ اللَّهِ كانت لَهُ نورًا يومَ القيامةِ" رواهُ الإمامُ أحمدُ، وأصحابُ السُّنَنِ الأربعِ، وصحّحَهُ الألبانيُّ. وقالَ عليه الصّلاةُ والسَّلامُ: "لا تَنْتِفُوا الشَّيبَ؛ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشيبُ شَيْبَةً في الإسلامِ إلَّا كانتْ لَهُ نورًا يومَ القيامةِ، إلَّا كتبَ اللَّهُ لَهُ بِها حسنةً      وحطَّ عنهُ بِها خطيئةً" رواهُ أبو داودَ والتّرمِذيُ

وحثَّ الإٍسلامُ على توقيرِ الكبيرِ، واحترامِه وإجلالِه؛ وجَعَلَ له حقوقاً صَريْحَةً واضِحَةً، فقدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "ليسَ منَّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا" رواهُ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والتّرمِذيُّ، وصحّحَه الألبانيُّ. وقالَ عليهِ الصّلاةُ والسَّلامُ: "إنَّ من إجلالِ اللَّهِ إِكْرامَ ذي الشَّيبةِ المسلِمِ، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيهِ والجافي عنهُ، وإِكْرامَ ذي السُّلطانِ المقسِطِ" رواهُ أبو داودَ وحسّنَهُ الألبانيُّ. ومِن حقوقِهِ: أنْ يُبْدَأَ بالسلامِ مِنْ قِبَلِ الأصغرِ مِنه؛ قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ علَى الكَبِيرِ، والمارُّ علَى القاعِدِ، والقَلِيلُ علَى الكَثِيرِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

ومِنْ حقوقِ كبارِ السِّنِّ في الإسلامِ: أنْ يُقَدَّمَ في التَّحيَّةِ، والشَّرابِ والطِّيبِ، ونحوِها مِن الأمورِ؛ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "أرَانِي أتَسَوَّكُ بسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ، أحَدُهُما أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ منهمَا، فقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إلى الأكْبَرِ منهمَا" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

وأَمرَ الإسلامُ بالاهتمامِ بِمَظْهَرِ الكبيرِ، وتَجْمِيلِ هَيْئَتِه، وتَجنيبِهِ ما يَشيْنُه، فعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنه قالَ: "أُتِيَ بأَبِي قُحَافَةَ يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: غَيِّرُوا هذا بشيءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ" رواهُ مسلمٌ، والثُّغامُ: هوَ نَبْتٌ شَديدُ البياضِ، زَهْرُهُ وثَمَرُهُ يُشَبَّهُ بِهِ الشَّيْبَ.

ومِنْ إجلالِ الإسلامِ للكبيرِ؛ تَقْدِيْمُه في الكلامِ؛ فَقَدْ كَانَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وَسلَّم إذا تَحَدَّثَ عِنْدَهُ اثنَانِ بأمرٍ مَا؛ بَدأَ بِأكْبَرِهِمَا سِنًّا، وَقَالَ للأصْغَرِ: كَبِّرْ كَبِّرْ.

وخَفَّفَ الإسلامُ بَعضاً مِنَ الأحكامِ الشرعيةِ عن كبارِ السِّنِّ الذينَ ضَعُفَتْ قُواهمُ، وتَرَاجَعتَ صِحَّتُهمُ، ولازَمتهُمُ الأمراضُ، ففي الصِّيامِ يفطرونَ ويُطعِمونَ عن كلِّ يومٍ مسكيناً، وفي الحجِّ يُنِيبُونَ، وفي الصّلاةِ عندَ العجزِ عنِ القيامِ يَقْعُدُونَ.

معاشرَ المؤمنينَ: عوداً على بَدْءٍ؛ نَقُوْلُ: إنَّ إكرامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسلِم يعني: إكْرَامَهُ في جَمِيعِ جوانبِ الحياةِ؛ كزيارَتِه ومؤانستِه، والقيامِ لهُ عندَ دخولِه للمجْلِسِ، وتَقدِيمِه عندَ الدّخولِ والخروجِ، وعَدَمِ الكلامِ في المجلِسِ إلا بإذِنِه، والتأدُّبِ بالكلامِ عندَ مخاطبَتِه ومُحاوَرتِه، واتِّخاذِ أفضلِ الأساليبِ عندَ إرشادِهِ وتعليمِه، وعدمِ الانشغالِ عنه في المجلسِ بالأحاديثِ الجانبيّةِ، أو بالأجهزةِ الذكيَّةِ، ومشاوَرَتِه في اتّخاذِ القَرَارَاتِ، وإشراكِه في النَّشَاطَاتِ الاجتِماعيَّةِ، و الاستِفادَةِ مِنْ خِبْرَتِه في مَجالاتِ الحياةِ التي خاضَها، وغيرِ ذلك من صورِ الإكرامِ التي تُشْعِرُه بِقيْمَتِه، ومَكانَتِه، وأهمّيَّتِهِ في المُجتَمعِ.

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسُّنَة، ونفعنا بما صرَّفَ فيهما من الآياتِ والحكمةِ.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه كانَ غفّاراً

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ الذي جعلَ زيادَةَ عُمُرِ المُسلمِ لهُ خيراً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ كانَ بعبادِهِ خبيراً بصيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورَسُولُه؛ بعَثَهُ اللهُ بشيراً ونَذيراً، وداعياً إلى اللهِ بإذنِهِ وسِرَاجاً مُنيراً، صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً، وعلى آلِه وصحبِه ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسانٍ إلى يومِ كانَ شرُّه مُستَطيراً..

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ"

معاشرَ المؤمنينَ: هنيئاً لِعائلةٍ يعيشُ بينَ أفرادِها كَبِيْرُ سِنٍّ، أبٌ، أو أمٌّ، أو جَدٌّ، أو جَدَّةٌ، أو غيرُهم، هؤلاءِ هُمُ البَركَةُ والخيرُ، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "البَرَكةُ مع أكابِرِكم" رواهُ ابنُ حِبّانَ والطّبرانيُّ، وصحّحَه الألبانيُّ. وجودُهُمْ في البيتِ يَشْرَحُ الصُّدُورَ، ويُؤنِسُ الحُضُورَ، ويُنعِشُ الأجواءَ، ويملأُ الأرجاءَ.

تَجْتَمعُ حَوْلَهمُ العائلةُ، ويَلْتفُّ عنْدَهُمُ الصِّغارُ، ويَكْثُرُ للبيتِ الزُّوارُ، ويَنتَظِمُ بهم عِقدُ العائلةِ، ويضبطونَ مواعيدَ الأكلِ والنّومِ، ويُذكِّرونَ بالصّلاةِ، ويَحثُّونَ على الخيرِ، ويربِطونَ الماضيَ بالحاضرِ، ويَصِلونَ الأجيالَ بِبَعضِها، ويَنْقُلونَ الخِبْراتِ، ويَرْوُوُن القصصَ والأخبارَ والأحداثَ، وجودُهم كنزٌ لا يُقدَّر بثمنٍ، وهم ثروَةٌ لا تباعُ ولا تُشْتَرى وإنْ طالَ الزَّمنُ.

عبادَ اللهِ: رِعايةُ كِبارِ السِّنِّ الموجودينَ في بُيوتِنَا مِنَ الوالدينِ، أو الأجدادِ، أو الأقاربِ؛ حَقٌّ مُتحتِّمٌ؛ ولازمٌ متأكّدٌ، ورعايتُهم تكونُ بالسّكَنِ المناسبِ، والملبسِ الحَسَنِ، والإطعامِ الوافيَ الكافيَ، والمُتابعَةِ الصّحيَّةِ والطِّبِّيَّةِ الّلازِمَةِ، وتهيئةِ أوقاتِ الزِّيارةِ لهم، فَمِنِ الإجحافِ في حَقِّهم، ومِنَ الإضرارِ بهم؛ عَزْلُهم عن النّاسِ والمجتمعِ، ومَنْعُ الزيارةِ لهم، وحِرْمِانُهم من مُجالسةِ النّاسِ، ولقائِهم ومؤانَسَتِهِم، فالفراغُ الذي يعيشونَه كبيرٌ، والوقتٌ عندهم طويلٌ، ووَقْعُ الشَّيخوخةِ عليهم ثقيلٌ.

فاللهَ اللهَ بهم؛ فما عَلِمْنَا عن كبارِ السّنِّ في مُجتَمَعنا إلا خيراً؛ رؤيتُهم تبعثُ في النّفوسِ الطّمأنينَةَ، والقربُ منهم يجلِبُ السّكينَةَ، والحديثُ مَعَهُمْ فُرْصةٌ ثمينَةٌ؛ واكْتِسَابُ دَعَوَاتِهم غَنِيْمَةٌ أيُّ غَنِيْمَةٍ.

هذا وصلّوا وسلّموا ..  

المرفقات

1756985504_كِبَارُ السِّنِّ؛ خَيْرٌ وخِبْرَةٌ وبَرَكَةٌ.docx

المشاهدات 575 | التعليقات 0