كونوا مع الصادقين

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/03/19 - 2025/09/11 17:03PM

                                  كونوا مع الصادقين

الحمدُ للهِ الذي أنزلَ كتابَه بالحقِّ، ومَن أصدقُ مِنَ اللهِ قيلًا، فجعلهُ لكلِّ شيءٍ تِبيانًا وللحقِّ دليلًا، وجعلَ الجنَّةَ لِمَنِ اتَّبعهُ خيرًا مُستقرًّا وأحسنَ مَقيلا.

 


والصلاةُ والسلامُ على أصدقِ الناسِ حديثًا، مَن سعى إلى ربِّه سعيًا حثيثًا، فبلغَ منزلةً لم يَبلُغْها أحدٌ من الناسِ قديمًا وحديثًا، صلاةً وسلامًا نرجو بها إلى رضى الله وسيلةً وسبيلًا.

 


أيها الناسُ، اتقوا اللهَ، حتى تكونوا عندهُ من الصادقين، فتدخلوا بذلك في زمرةِ مَن قال الله عنهم: ﴿أُولئِكَ الَّذينَ صَدَقوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقونَ﴾ [البقرة: ١٧٧].

 


أمَّا بعدُ:

 


أيها الإخوةُ في الله، عن الصِّدقِ سأُحدِّثكم هذا اليوم، وهذا يعني أنَّنا سنتحدَّثُ عن خُلُقٍ عظيمٍ، وخَلَّةٍ شريفةٍ، من خلالِ المتقينَ وصِفاتِهم، فقد قال اللهُ في معرضِ تعريفهِ بالمتقين: ﴿الصّابِرينَ وَالصّادِقينَ وَالقانِتينَ وَالمُنفِقينَ وَالمُستَغفِرينَ بِالأَسحارِ﴾ [آل عمران: ١٧].

 


وهو خُلُقٌ يُعَدُّ من الخِلالِ الجامعةِ التي يَنبثِق عنها الكثيرُ من الأخلاق، فالصادقُ غالبًا يتحلَّى بالحياء والكرم والشجاعة والعفاف والأمانة.

بخلافِ نقيضهِ وهو الكذبُ؛ فإنَّه مجمعٌ للنقائصِ وسوءِ الأخلاق؛ فالكذَّابُ لا تجدهُ إلا بخيلًا وجبانًا وفاجرًا وخائنًا.

 


ولذلك جُعلَ الصِّدقُ عنوانَ الإيمان، كما جُعلَ الكذبُ عنوانَ النِّفاق.

 


قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ، وإنَّ الرَّجلَ ليصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللَّهِ صدِّيقًا، وإنَّ الكذبَ يَهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يَهدي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ ويتحرَّى الكذِبَ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللَّهِ كذَّابًا». [أخرجه البخاري ومسلم]

 


وقال صلى الله عليه وسلم: «آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خان». [أخرجه البخاري ومسلم]

 


ويكفي في شرفِ الصِّدق، أن جعلهُ اللهُ تاجَ أخلاقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، التي كانت كلُّها حَسَنةً وعظيمةً، فهو بهذا أعظمُ الأخلاقِ وأشرفُها.

 


فقد كان يُعرَف به النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فهو الصادقُ الأمينُ، كما كان يُلقِّبُه قومُه قبل الإسلام. وشَهِدوا له به عند الصفا، عندما هيَّأهم ليُلقي عليهم خبرَ نبوَّته بقوله: «لو أخبرتُكم أنَّ خيلًا ستُغِيرُ عليكم من هذا الوادي أكنتم مُصدِّقي؟» قالوا: ما جرَّبنا عليكَ كذبًا، فقال: «إنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد».

 


ولم يُداخِلهم شكٌّ في صِدقِه، حتى بعد عداوته وتكذيبه، فقد كان تكذيبًا بألسنتِهم، أمَّا قلوبُهم فهي شاهدةٌ بصدقِه، وهذا ما كشفه الذي يعلمُ سرَّهم ونجواهم، فقال: ﴿قَد نَعلَمُ إِنَّهُ لَيَحزُنُكَ الَّذي يَقولونَ فَإِنَّهُم لا يُكَذِّبونَكَ وَلكِنَّ الظّالِمينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجحَدونَ﴾ [الأنعام: ٣٣].

 


وهو ما يَعترفونَ به ويُقِرُّون، في اللقاءاتِ الخاصَّة، والغرفِ المغلقة، عندما يكونون في مَنأى عن الأتباعِ الذين يُمارسونَ عليهم التضليلَ والتزييف.

 


روى ابن إسحاق عن الزهري: أنَّ الأخنسَ بن شُرَيق لَقي أبا جهلِ بن هشام يوم بدر، فقال له: يا أبا الحكم، أرأيتَ ما جاء به محمد؟ أحقٌّ هو أم باطل؟ فإنَّه ليس هاهنا من قريشٍ غيري وغيرُك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحكَ، والله إنَّ محمدًا لصادقٌ، وما كذَب محمدٌ قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصيٍّ باللِّواء والحِجابة والسِّقاية والنبوَّة، فماذا يكون لسائر قريش؟!

 


وهو ما أقرَّ به أبو سفيان بعد ذلك أمام القيصر، عندما سأله: «هل كنتم تتَّهمونه بالكذبِ قبل أن يقول ما قال؟» فقال له: لا. [البخاري]

 


وكان صدقُه عليه السلام، يفيض على وجهه ومحيَّاه، فيُعرَف في وجهه الصِّدق، وهي الآية التي قادت عبدالله بن سلام اليهودي إلى الإسلام، فقد رأى الصِّدقَ في وجهه، عندما رآه أوَّلَ مرَّة، يروي ذلك رضي الله عنه فيقول: «لمَّا قدِمَ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- انْجَفَلَ الناسُ إليه، فكنتُ فيمَن انْجَفَلَ، فلمَّا تبيَّنتُ وجهَه، عرفتُ أنَّ وجهَه ليس بوجهِ كذَّاب، فكان أوَّلَ شيءٍ سمعتُه يقول: أَفشوا السلام، وأَطعِموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلوا والناسُ نيام، تدخلوا الجنَّةَ بسلام». [أحمد والترمذي]

 


لو لم تكن فيهِ آياتٌ مبيَّنةٌ

كانت بديهتُهُ تُنبِيكَ بالخبرِ

 


فهذه أخلاقُ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، الذي أُمِرْنا بالاقتداء به، فلنَتحلَّ بالصدق، فإنَّه زينةُ الرجال، ومن شريفِ الخِلال، ووصيَّةُ الكبيرِ المتعال، عندما قال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ﴾ [التوبة: ١١٩].

 


ثم هو يَطبَعُ حياةَ الصادقِ كلَّها، ويستحيلُ إلى سلوكٍ عامٍّ، صِدقًا مع اللهِ بالتزامِ عهده وشرعه، وصِدقًا مع النفسِ بأن يستوي ظاهرُها وباطنُها، وصِدقًا مع الناسِ بإضمار الخيرِ والنصحِ لهم في حالِ حضورِهم وغيابِهم، وعدمِ غشِّهم والمَكرِ بهم.

 


فيقودُ الصِّدقُ المسلمَ بهذا إلى مرتبةِ الصدِّيقيَّة، التي هي أعلى المنازلِ بعد منزلةِ النبوَّة: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقًا﴾ [النساء: ٦٩].

 


فإن لم يكن هذا عن تديُّنٍ وامتثال، فلا أقلَّ مِن تنزُّهٍ عن الكذبِ الذي هو من دنيءِ الخِصال، فقد كان أشرافُ الرجالِ يتنزَّهون عنه ويعدُّونه عيبًا وعارًا.

 


فهذا أبو سفيان، عندما وقف أمام القيصر، وهو يسألُه عن عدوِّه، فلم يُجِزْ لنفسه أن يكذبَ في حقه، حتى لا يضرَّ بشرفه وسيادته، فقال: «فواللهِ لولا الحياءُ من أن يأثُروا عليَّ كذبًا لكذبتُ عنه».

 


لذلك فالكذَّابُ -كما أسلفنا- ساقطُ المروءة، رديءُ المعدن، جبانٌ خوَّار، يخشى المواجهة، ويحيك الدسائسَ والمؤامراتِ في جنح الظلام، كثيرُ الحلفِ والأيمان، يُبادرُ بها قبل أن تُطلَب منه، كثيرُ اللَّمزِ والهمزِ والسُّخريةِ من الناس.

 


ولأنَّ المنافقين كانوا أكذبَ الناس، فقد كانت هذه صفاتُهم، التي هبطوا بها إلى دَرَكِ الطِّباع، فاستحقُّوا الدَّرْكَ الأسفلَ من النار.

 


أقولُ قولي هذا ..

 


الخطبة الثانية

 


وبعدُ:

وممَّا يؤسَفُ له مَعشرَ الإخوة، أن يفشوَ الكذبُ، فيصبحَ سجيَّةً للرجل، فيكذبَ في كلِّ أحواله، تارةً ليتزيَّن أمام الناس بما ليس فيه، وتارةً ليتَّقي الشرور، وتارةً ليعتذرَ عن واجبٍ وحقٍّ، وتارةً ليبرِّرَ مواقفَه وأخطاءَه.

 


ويزدادُ الأمرُ سوءًا، إذا كان الكذبُ تجنِّيًا على بريءٍ، فيَلْحَقُه بسببه أذًى في نفسه أو أهله أو سُمعته أو مالِه أو ولدِه.

 


قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ يُؤذونَ المُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبوا فَقَدِ احتَمَلوا بُهتانًا وَإِثمًا مُبينًا﴾ [الأحزاب: ٥٨].

 


أو يقتطعَ الكذَّابُ بكذبِه مالًا لا يَحِلُّ له بحالٍ، ويظنَّ ذلك من الذكاءِ والدهاءِ.

 


قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحَنَ بحجَّتِه من بعضٍ، فأقضي على نحوِ ما أسمعُ، فمَن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئًا، فلا يأخذْه؛ فإنَّما أقطعُ له قطعةً من النار». [البخاري ومسلم]

 


وفي هذا الزمن، تحوَّل الكذبُ إلى صناعةٍ واحتراف، تُروَّجُ به البضائع، وتُطمَسُ به الحقائق، ويُزخرفُ به الباطل، ويُشوَّهُ به الحق، وتُصاغُ به عقولُ الناسِ وقناعاتُهم، ويُكذَبُ به على اللهِ ورسولِه، وهو أشدُّ أنواعِ الكذب وأخطرُها.

 


فكما يجب على المسلمِ في هذا الزمن أن يُحاذِرَ على لسانِه من الكذبِ أن ينطقَ به، فكذلك عليه أن يُحاذِرَ على أُذنه من الكذب أن يلجَ إليها، فيُزيِّفَ وعيَه، ويعبثَ بعقلِه.

 


فكم من مُتحرِّزٍ من الكذبِ بلسانه، وعقلُه نهبًا للدعاياتِ المُضلِّلة، والأكاذيبِ الرائجة، والخرافاتِ المُجنَّحة؟!

تمرُّ من أذنه إلى لسانه دونَ تمحيصٍ ووعي، فينطبقُ عليه قولُه تعالى: ﴿إِذ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتِكُم وَتَقولونَ بِأَفواهِكُم ما لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وَتَحسَبونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظيمٌ﴾ [النور: ١٥].

وقوله عليه الصلاة والسلام: «كَفى بالمرءِ كذبًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع». [مسلم]

 


اللهم طهِّر ألسنتَنا من الكذب، وأعينَنا من الخيانة، وقلوبَنا من النفاق..

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين.

المرفقات

1757599411_كونوا مع الصادقين.docx

1757599411_كونوا مع الصادقين pdf.pdf

المشاهدات 367 | التعليقات 0