مصيبةُ الأمة بفقدِ علمائِهَا.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ للهِ بَارِئِ النَّسَمَاتِ، وَقَاضِيَ الْحَاجَاتِ، أَحَاطَ عِلْمُهُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ، يُحْيي الأَرْضَ بِالْقَطْرِ بَعْدَ المَوَاتِ، وَيُضِيءُ بِالْوَحْيِ الْقُلُوبَ مِنَ الظُّلُمَاتِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعِلْمَ مَرْبَحاً وَمَغْنَماً، وَصَيَّرَهُ إِلَى الْجَنَّةِ طَرِيقاً وَسُلَّماً، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ هَادِيًا وَمُعَلّمًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، فقد وصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) النساء: [131].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: لَقَد اخْتصَّ اللهُ عز َّوجلَّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ شَاءَ بِفَضْلِهِ، فَجَعَلَ قُلُوبَهُمْ أَوْعِيَةً لِلإِيمَانِ وَالْحِلْمِ، وَزَيَّنَ عُقُولَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالفهْم، فَعَلَّمَهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَفَضَّلهُمْ عَلَى سَائِرِ المؤْمِنِينَ، وَأَوْرَثَهُمْ مِيرَاثَ النَّبِيِّينَ، قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) فاطر: [32].
وَالْعُلَمَاءُ يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَانٌ لِلأُمَّةِ في الْفِتَنِ، وَمَلاذٌ بعد اللهِ عِنْدَ المِحَنِ، رَفَعهَم اللهُ بالعِلْمِ، وزيَّّنَهُم بِالحِلْمِ، يَقْتَدِي بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَلا يَسْتَوُونَ بِغَيْرِهِمْ، قَالَ تَعَالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة (11) وقال ﷺ: (مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) أخرجه البخاري (71). وَلا أَدَلَّ عَلَى مَكَانَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَجَعَلَ شَهَادَتَهُمْ مَقْرُونَةً بِشَهَادَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) آل عمران: [18].
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنْ مَحَبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لأهْلِ الْعِلْمِ، أَنْ ميَّزَهُم بِالْخَشْيَة، وَخَصَّهُمْ بِالتَّقْوَى، قَالَ تَعَالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر: [28] تستغفرُ لهم الحيتانُ في ظُلُمَاتِهَا، والملائِكَةُ في عَلْيَائِهَا، والدَّوَابُّ في جُحُورِهَا.
وَالْعُلَمَاءُ يَا عِبَادَ اللهِ: مَصَابِيحُ الدُّجَى، وَأُولُو النُّهَى، بِهِمْ يُعرَفُ الحلالُ من الحرامِ والحقُّ من الباطلِ، والنَّافعُ من الضَّارِ، يدعون من ضلّ إلى الهُدَى، ويُبَصِّرُونَ بِنُورِ الْوَحْيِ مِنَ الْعَمَى، هُم غيظُ الشيطانِ، تحيَا بهم القلوبُ، وتَرْقَى بِهِم العُقُولُ، وتَصْفُو بهم النُّفُوسُ، وتُوأَدُ بِهِم الشُّرُورُ، آَثَارُهُم مَحْمُودَةٌ وأَفْعَالُهُم فِي النَّاسِ مَشْهُودَةٌ، حَيَاتُهم غَنِيمَةٌ، ومَوْتُهُم بَلِيَّةٌ، وَنَكْبَةٌُ وَمُصِيبَةٌ؛ لأَنَّهُمْ كَالنُّجُوم، إِذَا طُمِسَتْ، فَلا تَسَلْ عن الظَّلامِ كَيْفَ حلَّ، ولا تَسَلْ عن الْجَهْلِ مَتَى عَمَّ؟ ولا تَسَلْ عَن الأَخْلاقِ كَيْفَ سَاءَتْ، وَلا تسَلْ عن الْفِتَنِ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ؟
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمَوْتُ العُلَمَاءِ أَمْرٌ جَلَل، فَهُوَ مُصِيبَةٌ لِلْعَامَّةِ، وثَلْمَةٌ في جَسَدِ الأُمَّةِ، قَالَ تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) الرعد [41] قال ابنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِد: خَرَابُهَا بِمَوْتِ عُلَمَائهَا وفُقَهَائها. قَالَ ﷺ: (إِنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه من الناسِ ولكن يقبِضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ فإذا لم يُبِقِ عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا) رواه ابن ماجة (46) وصححه الألباني
عِبَاد اللهِ: وإذا ماتَ العالم أَفَلَتْ شَمْسُ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ وعَلَمٍ جَلِيّ.
ومِمَّا يَجْبُرُ الْقَلْبَ، وَيُضَمِّدُ الجُرْحَ، مَا رَأَيْنَاهُ وَلَمَسْنَاهُ وَعَايَشْنَاهُ مَعَ علمائنا مِنْ عِبَادَةٍ وَوَرَعٍ، وَمَحَبَّةٍ للهِ عزَّ وجلَّ ورسُولِهِ، ووَلاءٍ لِهَذَا الْبَلَدِ، وَوُلاةِ أَمْرِهِ وَعُلَمَائِهِ وَدُعَاتِهِ، وَبَذْلٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَخِدْمَةٍ لِلدِّينِ، حتَّى في أَحْلَكِ الظُّرُوفِ لَمْ يَتَخَلَّفوا طيلة حياتهم فَصَدْراً حَوَى عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، وَقَلْبًا مُلِئَ خَشْيَةً وَإِيمَاناً، وَكَهْلاً أَفْنَى عُمْرَهُ في الْعِلْمِ بِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ لَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّوْقِيرِ والإِجْلالِ، قَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي وَأَنَا مُنْكَسِرٌ, فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: مَاتَ صَدِيقٌ لِي، فقَالَ: مَاتَ عَلَى السُّنَّةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا تَخَفْ عَلَيْهِ) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/75) وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: طُوبَى لِمَنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/156) وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ-رحمه الله-: (مَنْ مَاتَ عَلَى الإِسْلامِ وَالسُّنَّةِ مَاتَ عَلَى الخَيْرِ كُلِّهِ) سير أعلام النبلاء (11/296).
عِبَادَ اللهِ: وَلَيْسَت الغَاية عندَ فقْدِ العلماءِ، أن تكثرَ المقالاتُ، وتَذِيعُ الْقَصَائِدُ، ويَظهرَ أثرُ فقدِهم على المجتمعِ شكوىً وتوجعًا، ولكنَّ المهمُّ هو تَرسُّمُ الخُطى، والسَّيرُ على المنهجِ، والسَّعيُ في طَلَبِ العلمِ الشرعيِّ والاجتهادُ في تحصيلهِ حتَّى نسدَّ ما يُثْلَمُ من الدينِ.
وَإِنِّي أَشُدُّ عَلَى أَيْدِي طَلَبَةِ الْعِلْمِ خَاصَّةً، والمسلمينَ عامَّةً، أنْ يَنْهَلُوا مِنْ سِيرِ هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وأنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَهُمْ، ويَتَحَلُّوا بِآَدَابِهِمْ، ويَلْزَمُوا غَرْسَهُمْ، ويَقْتَفُوا آَثَارَهُمْ في الْعِلْمِ والأَدَبِ، ويَقُومُوا بِحَقِّهِمْ في الدُّعَاءِ لَهُمْ، والتَّرْجَمَةِ عَنْهُمْ، والتَّعْرِيفِ بِشَمَائِلِهِمْ، وإِبْرَازِ نِتَاجِهِم الْعِلْمِيّ، وَإِخْرَاجِ إِرْثِهِم الفِقْهِيّ، لِيَكُونَ عُدَّةً لطلابِ العلمِ، والدُّعَاةِ. أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الرعد: [19].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
الخطبة الثانية: الْحَمْدُ للهِ ربِّ الْعَالمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ واعلموا أنِّ المنهجَ الذي سارَ عليه مشايخُنا من أهلِ العلمِ الربَّانيينَ منهم مَنْ قَضى نَحبْه ومنهم مَنْ يَنْتظرْ، له سماتٌ ومعالمُ، أهمُّهَا ما يلي: أولًا: العلمُ الصَّحيحُ المستمدُّ من الكتابِ والسُّنةِ.
ثانيًا: الحرصُ على نفعِ النَّاس وتعليمهم، فالفتوى عندهم ليستْ مقصورةً على وقتٍ دونَ وقتِ، بلْ يُفتونَ في كلِّ وقتٍ، وفي أي مكان، ويبذلون في ذلك الوقت والنفس، ويقدّمونه على ما سواه، رغبة في نفع الناس وتعليمهم، والقيام بحقهم.
ثالثًا: الأمرُ بالمعروفِ، والنهي عن المنكر، والتَّوَاصِي بالخير، والنُّصْحِ للغَيرِ.
رابعًا: مَحَبَّةُ وُلاة الأَمْرِ، ونُصْحُهم، والدُّعَاء لهم، وجَمْع القلوب عليهم، والْحِرُصُ على الوحدة والائتلاف، والحذَرُ كُلَّ الْحَذَر من الفُرْقَةِ والاخْتلافِ. أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يَرْحَمَ من مات من مشايخنا، وَأَنْ يُنْزِلَهُم مَنَازِلَ الصِّدِّيقِينَ، وَيُلْحِقَنَا بِهِم في الصَّالِحِينَ، وأن يحفظ الأحياء، ويمد في أعمارهم. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 4 /4 /1447هـ