مكاره الشتاء
أحمد بن عبدالله الحزيمي
مكَارِهُ الشِّتَاءِ
الحَمْدُ للهِ الَّذِي حَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، ذُو الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَائِدُ الْمُؤْمِنِينَ وَدَلِيلُ الْمِلَّةِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُ فِي السَّرَّاءِ وَالْمُلِمَّةِ. أَمَّا بَعْدُ:
مَنَحَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ تَقْوَاهُ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ، وَجَنَّبَنَا أَسْبَابَ غَضَبِهِ وَسَخَطِهِ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، إِنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: نَعِيشُ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَجْوَاءً شَتَوِيَّةً بَارِدَةً شَدِيدَةً لَمْ نَعْهَدْهَا مِنْ قَبْلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ فِي الدُّنْيَا مَا يُذَكِّرُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾، فَشِدَّةُ الْبَرْدِ تُذَكِّرُ بِمَا فِي جَهَنَّمَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ! وَهُوَ شِدَّةُ الْبَرْدِ الَّتِي لَا تُطَاقُ، وَالَّتِي قَدْ تَصِلُ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ التَّجَمُّدِ، وَهَذَا يَجْعَلُنَا نَزْدَادُ إِيمَانًا بِرَبِّنَا وَيَقِينًا بِخَالِقِنَا، وَتَصْدِيقًا بِمَا أَمَامَنَا، وَالْبُعْدَ كُلَّ الْبُعْدِ مِنْ جَهَنَّمَ وَزَمْهَرِيرِهَا.
وَاللهُ -تَعَالَى- ابْتَلَى الْعِبَادَ بِأَنْ جَعَلَ أَجْزَاءً مِنْ عُبُودِيَّتِهِ فِيمَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ؛ لِيُبْرِهِنَ الْعَبْدُ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِ، وَصِحَّةِ يَقِينِهِ، وَيُدَلِّلَ عَلَى رِضَاهُ بِاللهِ -تَعَالَى- رَبًّا، وَإِلَّا لَوِ اقْتَصَرَتْ عُبُودِيَّةُ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى أَبْوَابٍ يُحِبُّهَا الْعِبَادُ لَمَا تَبَيَّنَ الرَّاضِي مِنَ الْجَاحِدِ، وَلَا الطَّائِعُ مِنَ الْعَاصِي؛ وَلَكَانَ النَّاسُ فِي تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ سَوَاءً.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ فِي تَقَلُّبِ الزَّمَانِ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ، وَآيَةً بَيِّنَةً عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ الْقَهَّارِ، الَّذِي لَمْ يَجْعَلِ الزَّمَانَ نَهَارًا بِلَا لَيْلٍ، وَلَا لَيْلًا بِلَا نَهَارٍ، وَلَمْ يُصَيِّرْهُ كُلَّهُ صَيْفًا بِلَا شِتَاءٍ، وَلَا شِتَاءً بِلَا صَيْفٍ، وَلَكِنَّهُ -تَعَالَى- بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَقُدْرَتِهِ الْفَائِقَةِ جَعَلَ زَمَنَ هَذِهِ الْحَيَاةِ مُتَقَلِّبًا بَيْنَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ طَوَالَ الْعَامِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
وَحَيْثُ إِنَّ لِلشِّتَاءِ مَكَارِهَ وَمَشَاقَّ، وَمُعَانَاةً وَشِدَّةً، وَالْعَبْدُ الْمُحْتَسِبُ لَهَا مَأْجُورٌ وَمُثَابٌ، وَمُكَافَأٌ وَمُجَازًى مِنَ الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ بِأَعْظَمِ الْجَزَاءِ، جَرَّاءَ صَبْرِهِ وَاحْتِسَابِهِ، وَفِيمَا يَلِي شَيْئًا مِمَّا يَجِدُهُ الْعَبْدُ وَيَكْرَهُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
فَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ:
الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ الْوَاجِبَانِ أَوِ الْمَنْدُوبَانِ؛ فَإِنَّهُمَا يَشُقَّانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الشِّتَاءِ، فَالْبَعْضُ يَتَكَاسَلُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الشِّتَاءِ خَوْفًا مِنَ الْوُضُوءِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ خَاصَّةً فِي الشِّتَاءِ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ؛ أَي إِتْمَامُهُ وَإِكْمَالُهُ؛ وَلَا سِيَّمَا مَنْ سَكَنُوا الْبَرَارِي أَوْ خَرَجُوا إِلَيْهَا، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ الْإِتْمَامَ وَالْإِسْبَاغَ وَقْتَ الْمَكَارِهِ هُوَ مِمَّا يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ الْخَطَايَا.
وَإِذَا كَانَ الِاغْتِسَالُ فِي الصَّيْفِ تَبْرِيدًا وَلَذَّةً، فَهُوَ فِي الشِّتَاءِ عُسْرٌ وَمَشَقَّةٌ؛ وَلِذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ اخْتِصَامِ الْمَلَإِ الْأَعْلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ. قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ...» رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَفْرَحُ بِذَهَابِ الشِّتَاءِ لِمَا يَلْقَى النَّاسُ مِنَ الْوُضُوءِ».
وَلَيْسَ فِي قَصْدِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الشِّتَاءِ لِلْوُضُوءِ بِهِ أَوِ الْغُسْلِ بِهِ فَضِيلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ لَا تُقْصَدُ، وَلِهَذَا لَوْ تَوَفَّرَ لَهُ مَاءٌ دَافِئٌ فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْبَارِدَ لِيَتَكَلَّفَ وُجُودَ الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَمَنْ عُوفِيَ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْمَشَاقِّ فِي الشَّرِيعَةِ، هِيَ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ، وَهَذَا غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَةِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ.
وَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ:
مُفَارَقَةُ دِفْءِ الْفِرَاشِ، وَقَطْعُ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّوْمِ وَلَذَّتِهِ لِقِيَامِ اللَّيْلِ أَوْ لِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَجْرِ، وَنَوْمُ الشِّتَاءِ لِلدِّفْءِ أَلَذُّ مِنْ نَوْمِ الصَّيْفِ.
صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- عَجِبَ مِنْ رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي...».
وَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ:
أَمْرَاضُ الْبَرْدِ مِنْ زُكَامٍ وَحُمَّى وَنَحْوِهَا، وَمَا تُسَبِّبُهُ مِنْ آلَامٍ وَضَعْفٍ وَوَهْنٍ وَمُعَانَاةٍ، وَتَرَدُّدٍ عَلَى الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَرَاكِزِ الطِّبِّيَّةِ وَنَحْوِهَا.
وَهِيَ كَفَّارَاتٌ لِلْعَبْدِ إِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ؛ فَلَا يَضْجَرْ بِهَا، وَلَا يَشْتَكِ مِنْهَا، وَلَا يَتَسَخَّطْ بِسَبَبِهَا، سَوَاءٌ أَصَابَتْهُ أَمْرَاضُ الْبَرْدِ أَوْ أَصَابَتْ أَطْفَالَهُ الصِّغَارَ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَنْ يَعُولُ، فَتَأَلَّمَ لِأَلَمِهِمْ، وَسَهِرَ اللَّيَالِيَ لِأَجْلِهِمْ، وَتَكَلَّفَ فِي عِلَاجِهِمْ؛ فَهُوَ عَلَى أَلَمِهِ وَسَهَرِهِ لِأَجْلِهِمْ مَأْجُورٌ، وَمَا أَنْفَقَ فِي عِلَاجِهِمْ مَخْلُوفٌ، فَلَا يَضِيعُ لَهُ شَيْءٌ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- مَا دَامَ صَابِرًا لَمْ يَجْزَعْ، وَرَاضِيًا لَمْ يَسْخَطْ.
وَمِنْ مَكَارِهِ -كَذَلِكَ-: كَثْرَةُ النَّفَقَةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَوَسَائِلِ التَّدْفِئَةِ وَنَحْوِهَا؛ حَيْثُ إِنَّ تَوْفِيرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْحَاجَاتِ الْمُلِحَّةِ، وَالنَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ، أخرجَ البخاريُ ومسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ، كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوِ القائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهارَ)، قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(الْمَسَاكِينُ هُمُ الْفُقَرَاءُ، وَمِنْ هٰذَا قِيَامُ الإِنْسَانِ عَلَىٰ عَائِلَتِهِ الَّذِينَ لَا يَكْتَسِبُونَ، وَسَعْيُهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ السَّاعِيَ عَلَيْهِمْ وَالْقَائِمَ بِمَؤُونَتِهِمْ سَاعٍ عَلَىٰ مَسَاكِينَ، فَيَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِهٰذَا الْوَعْدِ، وَيَكُونُ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ الَّذِي لَا يُفْطِرُ).
وَهَذَا يَدْعُونَا -أَيُّهَا الْكِرَامُ- إِلَى التَّذْكِيرِ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَبَذْلِ الْإِحْسَانِ لَهُمْ، وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ؛ فَإِنَّ فَصْلَ الشِّتَاءِ يَحْتَاجُ إِلَى مُؤُونَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ طَعَامٍ وَكِسَاءٍ، فَيَعْجِزُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ عَنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمُؤُونَةِ.
تَذَكَّرُوا -أَيُّهَا الْإِخْوَانُ- وَأَنْتُمْ تَحِسُّونَ بِأَذَى الْبَرْدِ، تَذَكَّرُوا وَأَنْتُمْ مُطْمَئِنُّونَ فِي بُيُوتِكُمْ، مُطْمَئِنُّونَ بَيْنَ أَهْلِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، تَذَكَّرُوا إِخْوَانَكُمُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ حَوْلَكُمْ مِنْ جِيرَانِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، مَاذَا قَدَّمْتُمْ لَهُمْ مِنْ عَوْنٍ وَمُسَاعَدَةٍ؟ وَاهْتَبِلُوا الْفُرَصَ وَالْمَشَارِيعَ الَّتِي تُقَدِّمُهَا الْجَمْعِيَّاتُ الْخَيْرِيَّةُ لِهَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ، وَتَذَكَّرُوا أَيْضًا إِخْوَانًا لَكُمْ شَرَّدَتْهُمُ الْقُوَى الظَّالِمَةُ الْغَاشِمَةُ، فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَطْفَالُهُمْ فِي مَلَاجِئَ وَمُخَيَّمَاتٍ لَا تَقِيهِمْ مِنَ الْهَوَاءِ، وَلَا تَحْمِيهِمْ مِنَ الصَّقِيعِ.
إِنَّ مَعَانَاةَ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ لَابُدَّ أَنْ تَحْضُرَ وَلَا تَغِيبَ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى حَيَاةِ قُلُوبِكُمْ تِجَاهَ إِخْوَانِكُمْ؛ قَالَ الْحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه.
وَإِنْ نَنْسَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- فَلَا نَنْسَى إِخْوَانَنَا وَتَاجَ رُؤُوسِنَا، جُنُودَنَا الْمُرَابِطِينَ عَلَى الْحُدُودِ، الَّذِينَ يَحْمُونَ بِلَادَنَا، بِلَادَ الْحَرَمَيْنِ، بِأَرْوَاحِهِمْ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ وَالْأَحْوَالِ؛ فَلَا تَنْسُوهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ الصَّادِقِ الْمُسْتَمِرِّ: أَنْ يَنْصُرَهُمُ اللهُ وَيَدْحَرَ عَدُوَّهُمْ، وَلَا تَنْسَوْا أُسَرَهُمْ وَذَوِيهِمْ، تَفَقَّدُوا أَحْوَالَهُمْ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» متفق عليه.
وَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ أَيْضًا: مَا يَحْصُلُ عِنْدَ نُزُولِ الْأَمْطَارِ مِنْ أَذًى، سَوَاءٌ لِلْمَارَّةِ فِي الشَّوَارِعِ أَوْ فِي الْمَيَادِينِ، أَوْ فِي اتِّسَاخِ الْبُيُوتِ وَالِاسْتِرَاحَاتِ، أَوْ تَوَقُّفِ الْعَمَلِ لَدَى بَعْضِ أَصْحَابِ الْمِهَنِ كَالْمُزَارِعِينَ وَعُمَّالِ الْبِنَاءِ وَغَيْرِهِمْ، أَوْ مَا يُسَبِّبُهُ نُزُولُ الْبَرَدِ مِنْ إِتْلَافٍ لِلْمُمْتَلَكَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ وَالْمَحَاصِيلِ الزِّرَاعِيَّةِ وَنَحْوِهَا.
كُلُّ هَذِهِ الْمَكَارِهِ أيها الفضلاء إِذَا احْتَسَبَهَا الْعَبْدُ فَإِنَّهُ مَأْجُورٌ مُثَابٌ مُجَازًى بِأَعْظَمِ الْجَزَاءِ مِنَ الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَعْتَبِرُونَ بِعِبَرِهِ، وَيَسْتَغِلُّونَ مَوَاسِمَ الْخَيْرِ فِي طَاعَتِهِ.
بَارَكَ اللهُ...
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَوْجَةُ البَرْدِ القَارِسِ الَّتِي أَصَابَتْ كَثِيرًا مِنَ الدُّوَلِ، وَأَضَرَّتْ بِكَثِيرٍ مِنَ البَشَرِ هِيَ مِنْ دَلَائِلِ قُدْرَةِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ، وَلَوْ شَاءَ -سُبْحَانَهُ- لَجَمَّدَ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، فَلَا يَمْلِكُونَ لِذَلِكَ دَفْعًا وَلَا تَخْفِيفًا.
كَمَا أَنَّ هَذِهِ المَوْجَةَ البَارِدَةَ تُذَكِّرُنَا نِعَمَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَيْنَا؛ فَإِنَّنَا طَوَالَ العَامِ وَأَعْوَامًا سَابِقَةً نَرْفُلُ فِي النِّعَمِ، وَنَتَمَتَّعُ بِرِزْقِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَلَا نَجِدُ حَرًّا يُؤْذِينَا، وَلَا نُحِسُّ بَرْدًا يَضُرُّنَا، بِمَا خَفَّفَ اللهُ -تَعَالَى- عَنَّا، وَرَزَقَنَا مِنَ الغِذَاءِ وَالْكِسَاءِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمَتَاعِ، وَأَجْهِزَةِ التَّبْرِيدِ وَالتَّدْفِئَةِ.
وَهَذِهِ المَوْجَةُ البَارِدَةُ -يَا رَعَاكُمُ اللهُ- أَثْبَتَتْ لَنَا ضَعْفَ البَشَرِ، وَافْتِقَارَهُمْ إِلَى عَفْوِ اللهِ -تَعَالَى- عَنْهُمْ، وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَلَوْلَاهُ مَا نَعِمْنَا بِعَيْشٍ فِي هَذِهِ البَسِيطَةِ.
فَهَلْ قُوَى العَالَمِ اليَوْمَ قَادِرَةٌ عَلَى دَفْعِ هَذِهِ المَوْجَةِ أَوْ حَتَّى التَّخْفِيفِ مِنْهَا؟ شَاهَدْنَا الثُّلُوجَ وَالجَلِيدَ وَهُوَ يَكْسُو الشَّوَارِعَ وَالجِبَالَ وَالزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، وَيَشُلُّ حَرَكَةَ النَّاسِ؛ فَهَلْ يَا تُرَى لَهُمْ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهَا؟
لَا وَاللهِ، فَالْأَمْرُ لِلَّهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَأَخِيرًا -أَيُّهَا السَّادَةُ-: مِنْ كَمَالِ نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا. قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «عَلِمَ اللهُ -تَعَالَى- أَنَّ شِدَّةَ الحَرِّ تُؤْذِي، وَشِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي، فَوَقَاهُمْ أَذَاهُمَا جَمِيعًا: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) [الإنسان: 13]، وَالزَّمْهَرِيرُ: هُوَ البَرْدُ القَاطِعُ».
صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى البَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ.....
المرفقات
1766676678_مكَارِهُ الشِّتَاءِ.docx