من القصص النبوي قصة جريج العابد

من القصص النبوي قصة جريج العابد 1447/5/16هـ

الحمدُ للهِ مُعِزِّ مَنْ أطاعَهُ واتقاه، ومُذلِّ مَنْ خالفَه وعصَاه، وأشهدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ ومن ولاه، وسلم تسليمًا كثيرًا.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].. ثم أما بعد أيها الإخوة: اعلموا أنَّ من جميلِ ما ينبغي أَنْ يتدَاولَهُ الناسُ ويقرؤُنه بمجالِسِهم ما قَصَّهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- من القصصِ عمن كان قبلنا؛ لما فيها من غرسٍ للقيمِ، وتنويعٍ في أساليبِ الدعوةِ إلى اللهِ تعالى.. ومن القصص التي ذكرها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- عمن قبلنا قصةَ جُريجٍ العابدِ -رَحِمَهُ اللهُ-.. التي رواها البخاري ومسلمٌ وأحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَلَامُ.. وَصَبِيٌّ كَانَ فِي زَمَانِ جُرَيْجٍ وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ [وهِيَ الْبِنَاء الْمُرْتَفِع الْمُحَدَّد أَعْلَاهُ وَهِيَ نَحْو الْمَنَارَة يَنْقَطِعُونَ فِيهَا عَنْ الْوُصُول إِلَيْهِمْ وَالدُّخُول عَلَيْهِمْ.] وَكَانَتْ لَهُ أُمٌّ فَاشْتَاقَتْ إِلَيْهِ يَوْمًا فَأَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي -قَالَ حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ، كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ - فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ، كَلِّمْنِي فَقَالَ: يَا رَبِّ، الصَلَاةُ خَيْرٌ أَمْ أُمِّي آتِيهَا.؟. [أَيْ اِجْتَمَعَ عَلَيَّ إِجَابَةُ أُمِّي، وَإِتْمَامُ صَلَاتِي فَوَفِّقْنِي لِأَفْضَلِهِمَا] فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَرَجَعَتْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَاشْتَدَّ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَهُوَ ابْنِي، وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللَّهُمَّ فلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ ‌الْمُومِسَاتِ [أَيْ: البغايا والزواني] قَالَ: وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ.. فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَوْمًا جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ مِنْهُمْ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا: [أَيْ يُضْرَب بِهِ الْمَثَل لِانْفِرَادِهَا بِهِ] لَئِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ فَقَالُوا: قَدْ شِئْنَا، فَأَتَتْهُ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ [صَوْمَعَةِ جُرَيْجٌ] فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ فَجَاءُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي فَنَادَوْهُ: أَيْ جُرَيْجُ، أَيْ مُرَاءٍ، انْزِلْ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ وَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ يُصَلِّي فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ فَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ وَعُنُقِهَا حَبْلًا [المْرَأَةِ البَغِيِّ] وَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا فِي النَّاسِ وَشَتَمُوهُ، وَضَرَبُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، فَقَالَ: مَا شَأنُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّكَ زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ غُلَامًا فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟، قَالُوا: هَا هُوَ ذَا فَجَاءُوا بِهِ [أي الغُلَام] فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ.. فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَدَعَا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْغُلَامِ فَمَسَحَ رَأسَهُ وفي رواية: فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ بِإِصْبَعِهِ، وَقَالَ: بِاللهِ يَا غُلَامُ، مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَبِي رَاعِي الضَّأنِ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ أَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا ثُمَّ عَلَاهَا.. الحديث. وهذه الرواية مجموعة من رواية البخاري ومسلم وأحمد كما ذكرها صاحب كتاب «الجامع الصحيح للسنن والمسانيد»

أيها الإخوة: هذه القصة المحكمة الدقيقة إذا طرقت المسامع أحيتْ في القلوبِ حُب الطاعة والصبر عليها.. وأيقظت في النفس الخوف من الفتن وضرورة البعد عنها وأكدت أهمية بر الوالدين.. ولعل وقفةً مع بعضِ دروسها التي ذكرها أهل العلم بشيء من التفصيل يبين لنا الحكمةِ من إيرادها: من دروسها: أنَّ العزلة خير إذا كان في الخلطة شر، أما إذا لم يكن في الخلطة شر؛ فالاختلاط بالناس أفضل قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا ‌يَصْبِرُ ‌عَلَى ‌أَذَاهُمْ» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ  -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وصححه الألباني.. لكن إذا كانت الخلطَةُ ضررًا عليك في دينك، فانجُ بدينِك، كما قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ ‌غَنَمٌ ‌يَتْبَعُ ‌بِهَا ‌شَعَفَ الْجِبَالِ [وَهِيَ رُءُوسُ الْجِبَالِ] وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» رواه البخاري أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.. وقد أسهب شيخنا محمد العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- في فوائد هذا الحديث نذكر منها: أنَّ الوالدين إذا نادياك وأنت تصلي، فإن الواجب إجابتهما، لكن بشرط ألا تكون الصلاة فريضة، فإن كانت فريضة فلا يجوز أن تجيبهما، لكن إذا كانت نافلة فأجبهما.. إلا إذا كانا ممن يقدر الأمور قدرها.. وأنهما إذا علما أنك في صلاة عذراك، فهنا أشر إليهما بأنك في صلاة إما بالنحنحة، أو بقول: سبحان الله، أو برفع صوتك في آية تقرؤها، أو دعاءٍ تدعو به، حتى يشعرَ المنادي بأنك في صلاة، فإذا علمت أن هذين الأبوين: الأم والأب عندهما مرونة؛ ويعذرانك إذا كنت تصلي ألا تجيب؛ فنبههم على أنك تصلي.. ثم قال-رَحِمَهُ اللهُ-: وإن كان من الآخرين الذين لا يعذرون، ويريدون أن يكون قولهم هو الأعلى؛ فاقطع صلاتك وكلمهم، وكذلك يقال في الأم.. وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: إنَّ دعاءَ الوالدِ على ولده إذا كان بحق؛ فهو حري أن يجيبه الله، ولهذا ينبغي لك أن تحترس غاية الاحتراس من دعاء الوالدين، حتى لا تعرض نفسك لقبولِ اللهِ دعاءهما فتخسر.. قاله شيخنا محمد العثيمين شرح رياض الصالحين. وقال -رَحِمَهُ اللهُ- ما ملخصه: أن الشفقة التي أودعها الله في قلوب الوالدين، قد يوجد ما يرفعها كشدة الغضب و-العياذ بالله- لأن هذه الدعوة العظيمة من هذه الأم على ولدها بألا يموت حتى ينظرَ في وجوه المومسات، كانت في شدة الغضب.. أقول: فليحذر الوالدان من الدعاء على أولادِهم مهما بلغوا من التقصير وعلى الوالد الرشيد أن يستبدل الدعاء على الولد بالدعاء له ولو كان مخطئًا.. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، ‌وَدَعْوَةُ ‌الْوَالِدِ ‌عَلَى ‌وَلَدِهِ» رواه البخاري بالأدب المفرد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وصححه الألباني. اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وسلم عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ومن تبعهم بإحسان إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.. أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. ومن فوائد هذه القصة: أن الإنسان إذا تعرَّف إلى الله تعالى في الرخاء؛ عرفه سبحانه في الشدة، فإن هذا الرجلَ كان عابدًا يتعبد لله -عَزَّ وَجَلَّ- في وقت الرخاء، فلما وقع في الشدة العظيمة جعل الله له مخرجًا من شدته فأنجاه الله منها.. بمعجزة عظيمة فأنطق الرضيع بمهده كرامة له.. وَقَدْ يَتَأَخَّر الفرج عَنْ بَعْضهمْ فِي بَعْض الْأَوْقَات تَهْذِيبًا لهم وَزِيَادَة لَهُمْ فِي ثَوَابِهم.

وفيها: دليل على صبر جريج -رَحِمَهُ اللهُ- فإنه لم ينتقم لنفسه، ولم يكلفهم شططًا فيبنوا له صومعته من ذهب كما عرضوا عليه، وإنما رضي بما كان رضي به أولًا بأنْ تُبني من الطين.. وفيها: أن الفزع إلى الصلاة عند الملمات سنةٌ مطردة، فهذا جريج لما ضربوه وسبوه وشتموه واتهموه بأنه هو الذي زنى بالمرأة قال: "دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ" فصلى، ففي الصلاة قوة على ملاقاة الشدائد، ولذلك أمر تعالى بالاستعانة بها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة:153]،  لأنها نورُ المؤمنين، وصلةُ بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاةُ العبد  كاملةً، مجتمعًا فيها ما يلزمُ وما يسنُ، واستحضر العبدُ فيها كلَ ما يقوله وما يفعله، مُسْتَغرقًا بمناجاة ربه ودعائه لا جرم أن هذه الصلاة، من أكبر المعونة على جميع الأمور.. وكان هذا هديُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فعَنْ حُذَيْفَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-‌ إِذَا ‌حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى» رواه أبو داود وحسنه الألباني.. اللهم أجعلنا ممن يستمع القول يتبع أحسنه وصلوا وسلموا على نبيكم...

المشاهدات 310 | التعليقات 0