موسم الحج والنعم المتجددة

عبد الله بن علي الطريف
1446/12/16 - 2025/06/12 07:15AM

موسم الحج والنعم المتجددة 1446/12/17هـ

الحَمدُ للهِ المتفَضِلِ بالنعمِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]

أيها الإخوة: من نعمِ اللهِ -تعالى- العُظمى على هذه البلاد أن جعل فيها البلدَ الحرامَ مكةَ المكرمة، واختارها الله -جل وعلا- قبلةً للمسلمين في صلاتهم، وجعل قلوبَ المؤمنين تهفوا إليها ببركةِ دعاءِ أبينا إبراهيمَ -عليه الصلاة والسلام-، قال الله -تعالى- على لسانه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ ‌أَفْئِدَةً ‌مِنَ ‌النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم:37]؛ قال الشيخُ السعدي -رحمه الله-: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ‌تَهْوِي ‌إِلَيْهِمْ)؛ أي: تحبُهم وتحبُ الْمَوضِعَ الذي هم ساكنون فِيهِ.. فأجابَ اللهُ دعاءَهُ فأخرجَ من ذريةِ إسماعيلَ -عليه الصلاة والسلام-، محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- حتى دَعَا ذريتَهُ إلى الدينِ الإسلامِيِ وإلى ملةِ أبيِهم إبراهيمَ؛ فاستجابوا له وصاروا مُقِيمِي الصلاةَ.

وافترضَ اللهُ حجَ هذا البيتَ الذي أَسْكَنَ بِهِ ذُريَةَ إبراهيمَ، وجعلَ فيه سِرًّا عَجيبًا جَاذِبًا للقلوبِ، فهي تَحُجُهُ ولا تَقْضِي منه وَطَرًا على الدوامِ، بل كُلَما أكثَرَ العَبدُ الترددَ إليه ازْدَادَ شَوقُهُ وعَظُمَ وَلَعُهُ وَتَوْقُهُ، وهذا سِرُ إضافتِهِ -تعالى- إلى نَفْسِهِ المقدَّسَةِ.. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فأجابَ اللهُ دعاءَهُ، فصارَ يُجْبَى إليه ثمراتُ كلُ شيءٍ، فإنَّك تَرَى مكةَ الْمُشرفةَ كلَ وقتٍ والثِمارُ فيها متوافرةٌ، والأرزاقُ تتوالى إليها من كلِ جانبٍ..

وقال الله -تعالى- ممتنًا على أهلِ مكةَ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ‌ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:57].

أيها الإخوة: ومن نعمِ اللهِ -تعالى- الظاهرةِ المتوافرةِ لهذه البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية) نعمةُ خِدمةِ الحرمين الشريفين وقاصدِيها من ضيوفِ الرحمنِ، الذين سمَّاهم النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- ‌وَفْدَ ‌اللَّهِ بقوله: «الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ، ‌وَفْدُ ‌اللَّهِ، دَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ» رواه ابن ماجة والنسائي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وحسنه الألباني.. وكلُ ما تبذُلُه الدولةُ من تطويرٍ للمشاعرِ المقدسةِ، وعمارةٍ للمسجدِ الحرامِ والمسجدِ النبوي، وكلُ ما يتمُ بَذْلُهُ وتسخِيرُه من جميعِ الإمكانات والخدماتِ للحجاجِ والمعتمرين، نعمةٌ متجددةٌ على هذه البلادِ وولاةِ أمرِهَا تستوجبُ شكرَ اللهِ عليها، والشكرُ مقامٌ سامٍ من مقاماتِ العبوديةِ للهِ تعالى، قال اللهُ تعالى حَاثًا عليه: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ). [الزمر:66] وشُكرُ النعمِ من أسبابِ بقائِها وزيادتِها مِصْدَاقُهُ قولُ الله وتعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ). [إبراهيم:7] ومن شُكرِ النعم التحدثُ بها على سبيلِ الاعترافِ بها، والتذكيرِ بها لتُشْكرَ؛ لقوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). [الضحى:11] قال الشيخ السعدي رحمه الله: وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية (فَحَدِّثْ) أي: أَثْنِ على اللهِ بها، وخَصْصْها بالذكرِ إن كان هناك مصلحةً.. وإلا فحدثْ بنعمِ الله على الإطلاقِ، فإن التحدثَ بنعمةِ الله، داعٍ لشكرها، وموجبٌ لتحبيبِ القلوب إلى من أنعمَ بها، فإنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبة المحسن.

أسأل الله -تعالى- أن يتقبل من الحاجين حجهم، ويجزي خيرًا من هيأ ويسر لهم سبل مناسكهم..

 

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَعْطَى فَأَجْزَلْ، وَمَنَحَ فَتَفَضَّل، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ، وسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً.. أَمَّا بَعْدُ أيها الإخوة: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، واعلموا أنَّ من النعم العظيمة التي تذكرُ وتشكر ما تحققَ من نجاحٍ باهر لموسم حج هذا العام حيث أدّى المسلمون مناسك حجهم في أمن وطمأنينة وسكينة وراحة، وسلامة من الأوبئة وكل ما يعكر عليهم نسكهم.

كل هذا النجاح الذي تحقق هو من فضل الله تعالى أولًا؛ فجميع النعم الحادثة والمتجددة منه -سبحانه- فقد قَالَ: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ). [النحل:53] ثم بفضل جهود حكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وفقهم الله في رعايتهم اللصيقة لموسم الحج في كل عام، وعنايتهم التامة به.. حقٌ علينا شكرُهم والثناءُ على جهودهم، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ ‌لَا ‌يَشْكُرُ ‌النَّاسَ». رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني.، ثم تخصيصُهم بصادقِ الدعاء، قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "‌الدعاءُ ‌لولي ‌الأمر من أعظم القُربات، ومن أفضلِ الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده، فقد «قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا، [وهم كفار] فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ‌اهْدِ ‌دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ.» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. فهداهم الله وأتوه مسلمين.. فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى من يُدعى له؛ لأن صلاحَه صلاحٌ للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان) ويروى ذلك عن الفضيل بن عياض رحمه الله.

 ومن المظاهر الحميدة في حج هذا العام إلزام والتزام مريد الحج باستخراج التصريح وتقيدهم بالأنظمة والتعليمات، امتثالاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ)، وقد ظهر أثر ذلك في السلامة العامة لأرواحهم وصحتهم، وسهولة وسلاسة تنقلهم بين المشاعر وأدائهم للمناسك بطمأنينة ويسر. فلله الحمدُ ربِ العالمين.. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيْكُم يُعْظِم اللهُ أَجَرَكُم فقَدْ أَمَرَكُم بِذَلِكَ رَبُّكُم فقال (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] وقال الـمُصْطَفَى مُرَغِبًا بالصَلَاةِ عَلَيْهِ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» رواه النسائي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ الصَّحَابَةِ أَجمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ إِلى يَومِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُم بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ يَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ. الَّلهُمَّ اجْعَلْنَا مِمنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ، الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ والأمراض والأوبئة مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ وفّقْهُما لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُما فِي رِضَاكَ، الَّلهُمَّ ابْسطْ الأَمْنَ وَالإِيمَانَ وَالسَلَامَةَ والإِسْلَامَ وَالـمَحَبَةَ وَالوِئَامَ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ الإِسْلَامِ.. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.. (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45]..

المشاهدات 986 | التعليقات 0