ميزان الطاعة

الشيخ محمد الوجيه
1447/05/08 - 2025/10/30 16:08PM

‏ميزان الطاعة

‏الخطبة الأولى‏

‏إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

‏أما بعد أيها المؤمنون، اوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى.

‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].‏

‏عباد الله، إن الإيمان ركنٌ راسخٌ، والطاعة عهدٌ موثقٌ. لقد شاءت حكمة الله البالغة أن تكون طاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الميزانَ الذي توزن به طاعةُ الخالق سبحانه، وأن يكون اتباعُ هديه البرهانَ الساطعَ على صدق الإيمان. فكيف السبيلُ إلى رضا الله؟ وكيف النجاةُ من سخطه؟ إنها طريق الطاعة الجامعة، التي لا تقبلُ التجزئةَ ولا التولّي.‏

‏لقد قرر ربنا عز وجل في كتابه الكريم هذه الحقيقة التي هي عمودُ الشريعةِ ولبُّ التكليفِ: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (النساء: 80). ففي هذه الآية، إعجازٌ في الإيجاز، وتأكيدٌ على أن شريعة الرسول ليست اجتهادًا بشريًا، بل وحيٌ إلهيٌ لا ينطق عن هوى. وقد صدق ابن كثير رحمه الله إذ يقول: "يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى".‏

‏وإذا ما اضطربت الأمورُ واشتدّت الخصوماتُ، فهل هناك مرجعٌ أصدقُ من القرآنِ الناطقِ والسنةِ الشارحةِ؟ لا والله! فلذلك أمرنا الله أن نردّ الأمر إلى مصدره الأصيل، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء: 59). وقد استخلص الشيخ عبد الرحمن السعدي من هذه الآية قاعدةً ذهبية: "المراد بـ"الرد إلى الله" هو الرد إلى كتابه، والمراد بـ"الرد إلى الرسول" هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته، وذلك دليل على أن الكتاب والسنة هما المرجع في كل خلاف".‏

‏ عباد الله، إن السنةَ سياجٌ متينٌ للقرآن، وهي النورُ الكاشفُ لمراد الشارع. فما من تشريعٍ إلا وللرسول فيه قولٌ أو فعلٌ أو تقريرٌ، ولذلك جاء الأمرُ جامعًا شاملًا لا يترك مجالًا للاجتهاد الفردي المخالف: ﴿... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: 7). وكما قال الإمام القرطبي في بيان شمولها: "هذه الآية عامة في جميع أوامر الرسول ونواهيه".‏

‏تأملوا معي -أيها الكرام- كيف أن الهدايةَ قنطرةٌ لا تُعبرُ إلا بطاعته، وكيف أن التولّي عن هديه يورثُ الضلالةَ، حتى قال سبحانه: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 32)، ثم جاء الوعدُ العظيمُ الذي يثلجُ صدورَ المتبعين: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: 54). فكيف يطلبُ عبدٌ الهدايةَ وهو يعرضُ عن سببها الأوحد؟ لقد صدق الشيخ السعدي بقوله: "دليل على أن لا سبيل للعباد إلى الهداية إلا بطاعة الرسول، وبدون ذلك لا يمكن، بل هو محال".‏

‏وبلسانِ النبوةِ الصادقِ، جاء التحذيرُ من الإباء، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإعراض عن سنته مفتاحًا للشقاء وبابًا للرفض: ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى." قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى."‏

‏وأكد صلى الله عليه وسلم أن منهجه كمالٌ واعتدالٌ، وحذّر من الغلو فيه أو الرغبة عنه إلى أي مسلك آخر، فقال في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي." ولما علم صلى الله عليه وسلم بما سيحلّ بالأمة من اختلافٍ وتفرق، ترك لنا الميثاقَ الأعظمَ لنجاتنا، ففي وصيته الجامعة التي أخرجها أبو داود والترمذي: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ." فتمسكوا وعضوا، نجاةً لكم من الغرق!‏

‏أيها لمؤمنون، على هذا المنارِ الوضّاحِ سار سلفنا الصالح، فرأوا في لزوم السنة درعًا واقيًا وحصنًا منيعًا. فهذا الصديق الأكبر، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يُعلن خوفه من الزيغ بمجرد ترك أدنى سنة، إذ يقول: "لستُ تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركتُ شيئًا من أمرِه أن أزِيغ". ويزيد الإمام مالك رحمه الله المشهدَ وضوحًا وإثارةً بقوله: "السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق."‏

‏ويؤكد الإمام الأوزاعي رحمه الله على أصالة المنهج بقوله: "عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوها لك بالقول". ويُلخص الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أساس الدين في قوله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة".‏

‏فيا أيها المؤمنون، اجعلوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو بوصلتكم الثابتة، وهو سراجكم المنير، في كل صغيرة وكبيرة.

‏أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

‏الخطبة الثانية‏

‏الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.

‏أما بعد أيها المسلمون: إن لزوم السنة هو ترجمةٌ صادقةٌ لمحبته، ولكن هذه المحبةَ لا تكتملُ إلا باجتناب الفتنةِ الأكبرِ والداءِ الأعظمِ، ألا وهو اتباع البدع والأهواء المضلة. لقد رأيتم تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من "محدثات الأمور"، فالبدعة يا عباد الله تُفسِدُ الدينَ كما يُفسدُ السَّمُّ الجسدَ؛ هي تطفئ نور السنة وتُقسّي القلب وتُباعدُ عن طريق الحق.‏

‏لقد كان السلف كالطبيبِ البصيرِ يرى في البدعة جرحًا غائرًا، حتى قال سفيان الثوري رحمه الله: "إنما يُطلب العلم ليُتقى به الله، فالسنة لا تكون بدعة، والبدعة لا تكون سنة". وقال الفضيل بن عياض موضحًا معيارَ الانتماء: "من أحب أن يستدل على أهل السنة، فلينظر إلى إعراضه عن أهل البدع".‏

‏فالبدعة هي سُلّمُ الانحراف، يُزيّنُها الشيطانُ لتكونَ العملَ المردودَ على صاحبه. فالحذرَ الحذرَ من كل ما لم يكن عليه سلفُنا الصالح.

‏إن حراسةَ سفينةِ السنةِ لا تكتملُ إلا بتركِ مرافئِ البدعةِ، ولقد أدرك سلفُنا الصالحُ هذه الحقيقةَ إدراكًا لم يترك مجالًا للتهاون، فجعلوا التحذيرَ منها سياطًا تلهبُ ظهرَ الغافل وتُوقظُ الضميرَ من سُباتِه.‏

‏​فاسمعوا إلى قولِ الإمام مالك بن أنس وهو يُشخّصُ الداءَ بأقسى العبارات، جاعلًا البدعةَ اتهامًا خفيًا للرسالةِ بالنقص: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا."‏

‏​وتأملوا في قول سفيان الثوري وهو يكشفُ مكرَ إبليسَ في البدعةِ، حيث قال قولتَه التي تهزُّ القلب: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها." فصاحب البدعة أسيرُ عمله، يراه قُربةً وهو عينُ الضلال!‏

‏​ولذلك كان منهجُهم يقومُ على الاعتصامِ الحازمِ بحدود ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، كما أرشد الإمام الأوزاعي تلامذته بقوله النيرِ: "عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوها لك بالقول." فالنجاةُ كلُّ النجاةِ في الوثوقِ بما كان، لا الاغترارِ بما استُحدِثَ من الأهواء.‏

‏فيا ربَّنا، اجعلنا من المتسلحين بسنة نبيك، السائرين على نهج صحابته والتابعين لهم بإحسان.

‏اللهم إنا نعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ونعوذ بك من الرغبة عن سنتك، والتولي عن منهجك.

‏اللهم احفظنا من البدع، ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها. اللهم اجعلنا ممن يعضّ على سنته بالنواجذ، وممن يُبغض الأهواء والضلالات، ولا تجعل في قلوبنا ميلًا إلى أهل الزيغ والباطل.‏

‏اللهم ارزقنا أن نكون على منهاج سلفنا الصالح، ممن اقتدوا بكتابك وسنة نبيك، حتى نلقاك على ذلك.

‏اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واغفر ذنوبنا، وتب علينا، وثبتنا على الإيمان، وادخلنا الجنة مع الأبرار.

المرفقات

1761829683_ميزان الطاعة.docx

المشاهدات 386 | التعليقات 0