نجاح موسم الحج ( موافقة للتعميم + مشكولة ومختصرة )

صالح عبد الرحمن
1446/12/16 - 2025/06/12 08:30AM

الخطبة الأولى:

الحمد لله، أحبَّ الحمد فكان أعظمَ محمود وبدأَ الخلقَ به، وبه ختمُ الوجود، وخلقَ الناسَ ليعبدُوه، فهو سبحانه الحقُّ المعبود، أحمدُه سبحانه وتعالى، وأشكرُه على نعمائِه التي ليس لها حدود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعظمُ شهادةٍ بأعظمِ مشهود، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه صاحبُ المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، صلواتُ ربي وسلامُه عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 وبعدُ أيها المؤمنون فاتقوا الله ربَّكم، وجِدُّوا في العمل وتزوَّدوا لآخرتِكم، ولا يُلهِيَنَّكم طولُ الأمل، فما الدنيا إلا آمالٌ مُخترَمات، ومعايشُ مُنتقصات، وبلاغٌ إلى دارٍ غيرها، وسيرٌ إلى الموت ليس فيه إخلافٌ ولا تعريج، ألا وإن كلَ أجلٍ له كتاب وكلَ عبدٍ له حساب، وإنه لن يُنجِيَ أحدًا منكم غدًا كثرةُ متاعٍ أو عرب، وإنما هو معيارُ التقوى وميزانُ العمل (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظُر نفسٌ ما قدَّمت لغد واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون).

أيُّهَا المُسْلِمونَ: إِنَّ مِنْ فَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكُم أَنْ أَمَدَّ فِي أَعْمَارِكُم؛ لِتُدْرِكَوا طَاعَاتٍ مَا أَدْرَكَهَا مَنْ اخْتَرَمَتْهُمُ الْمَنَايَا قَبْلَكُمُ؛ وَتَشْهَدَوا أَيَّامَاً فَضِيلَة، وَلياليَ جَلِيلَةً، يَتَنَافَسُ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ وَيُتَقرَّبُ فِيهَا الْمُتَقرِبُونَ بِالعَمَلِ الصَالِحِ.

وَمِنْ وَاجِبِ العَبْدِ بَعْدَ انْتِهاءِ مَوَاسِمَ الْطَّاعَاتِ، المُوَاظَبَةُ عَلَى طَاعَةِ خَالِقِهِ وَمَوْلاَهُ، وَالْاِسْتِقَامَةُ عَلَى عِبَادَتِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَوْلًا لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ -أَوْ قَالَ: بَعْدَكَ - قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»؛ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْأَلُ رَبَهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتَصْرِيفَ الْقَلْبِ عَلَى الطَّاعَةِ؛ قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

وَكَانَتْ وَصَايَا النَّبِيِّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ؛ بِالْمُدَاوَمَةِ وَالثَّبَّاتِ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَدَمِ تَرْكِهِ بَعْدَ اعْتِيَادِهِ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «يَا عَبْدَ اللهِ لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ»، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ أَبُوهُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: «صَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

أَلَا وَإِنَّ عِبَادَةَ اللهِ لَيْسَتْ رَهِينَةَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ أَوْ مَوْسِمٍ مِنَ الْمَوَاسِمِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى الدَّوَامِ؛ إِذِ الْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ حَتَّى يَلْقَاهُ؛ كَمَا قَالَ جَلَّ فِي عُلاهُ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلاً دُونَ الْمَوْتِ».

وَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ دِينِنَا الحَنِيفِ الاسْتمْرَارُ عَلَى العِبادَاتِ مَعَ الاقْتِصَادِ فِيهَا وَعَدَمِ الغُلُوِّ، حَتَّى لا تَمَلَّ النَّفْسُ وَتَسْأَمَ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُوْوِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ» مُتَفقٌ عَليِهِ.

وَمِنْ عَلَاَمَاتِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ أَنْ يَسْتَقِيمَ الْمُسْلِمُ بَعْدَ حَجِّهِ، وَيَكْوُنَ بَعْدَ الْحَجِّ أَحْسَنَ حَالاً مِنْ قِبْلِهِ؛ فَاِتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَالزَمُوا طَرَيقَ الاستِقامَةِ، فَلسْتمُ بِدَارِ إقامَةٍ، وَاجْعَلُوا أَيَّامَكُمْ وَلَيَالِيَكُمْ كُلَّهَا بذكر ِاللهِ تَعَالَى وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَحُسْنُ عِبَادَتِهِ، وَالـمُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ وَإِتْبَاعِهَا بِالنَّوَافِلِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.

الَّلهُمَّ عَلَيْكَ تَوَكُّلُنَا وَاعْتِمَادُنَا، فَثَبِّتْنَا عَلَى نَهْجِ الْاِسْتِقَامَةِ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيةُ:

الْحَمْدُ للّهِ وَكَفَى، وَسَلَاَمٌ عَلى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ؛ فَاِتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، قَالَ سبحانه ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (وما بكم من نعم فمن الله) وإننا لنشاهد جميعاً وَلَلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ما تحقق من نجاحٍ لحَجِ هَذَا الْعَامِ؛ فقد شرف الله هذه البلاد المباركة لِخِدْمَةِ ضيُوفِ الرَّحْمنِ وَرَاحَةِ الْحُجَّاجِ والمعتمرين، فهذا النجاح إنما هو بِفَضْلِ اللهِ أولاً ثم بَجُهْودِ خَادِمِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَسُمُوِّ وَلِيِّ عَهْدَهِ الْأَمِيِنِ الذين لا يألون جهداً في خِدْمَةِ ضُيُوفِ الرَّحْمَنِ، فقد تَمَكَّنَ الحجاج مِنْ أَداءِ حَجِّهِمْ في أَمْنٍ وَأَمانٍ وَسَلامَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَصِحَّةٍ وَعافِيَةٍ، وَهذا مما يستوجب الشكر لله تَعَالَى القائل ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ وَقَالَ سبحانه ﴿وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ وَقَالَﷺ«لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

ونلحظُ بفضل الله ثمرة الالتزام بالتعليمات واستخراج التصاريح مما كان سبباً في سلامة الحجاج وصحة أرواحهم، وسلاسة تنقلهم بين المشاعر وأدائهم المناسك بطمأنينة ويسر.

 وَهَا قَدْ اِنْتَهَى مَوْسِمُ الْحَجِّ، لِيُتَوِّجَ الْعَامِلُونَ بما عملوا، ولِتَدُومَ صِلَتُهُمْ بِاللهِ جَلَّ وَعَلًّا؛ فَهَنِيئَاً لِلْحُجَّاجِ وَالمُضَحِينَ، وَهَنِيئَاً لِلذَّاكِرِينَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَبُشْرَى لَهُمِ الْأَجْرَ وَالْمَثُوبَةُ، وَاللهَ عِنْدَهُ حَسَنُ الثَّوَابِ.

 

المشاهدات 618 | التعليقات 0