نماذج من الثبات… دروس من سير السالفين

فهد فالح الشاكر
1447/05/22 - 2025/11/13 21:21PM

نماذج من الثبات… دروس من سير السالفي

الخطبة الأولى

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَبِفَضْلِهِ تَثْبُتُ الْقُلُوبُ عَلَى الطَّاعَاتِ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى آلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمَائِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَنَسْتَهْدِيهِ إِلَى سَوَاءِ سَبِيلِهِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ حَقَّ التَّقْوَى، فَإِنَّهَا وَصِيَّتُهُ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللَّهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْحَةٌ جَلِيلَةٌ، يَهَبُهَا اللَّهُ لِمَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ، وَصَلَحَ قَلْبُهُ، وَتَمَسَّكَ بِهَدْيِ رَبِّهِ.

وَالْقُلُوبُ – عِبَادَ اللَّهِ – بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ؛ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَلِذَا كَانَ مِنْ أَكْثَرِ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ:

«يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ: صِدْقُ الْإِيمَانِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالرِّفْقَةُ الصَّالِحَةُ، وَالِابْتِعَادُ عَنْ مَوَاطِنِ الْفِتَنِ، وَالدُّعَاءُ الصَّادِقُ الَّذِي هُوَ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:

وَمِنْ أَعْظَمِ الشَّوَاهِدِ عَلَى الثَّبَاتِ مَا قَصَّهُ التَّارِيخُ مِنْ مَوَاقِفِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، الَّذِينَ ضَرَبُوا لِلْعَالَمِ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ.

فَتَأَمَّلُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – بِلَالَ بْنَ رَبَاحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَلِكَ الْعَبْدَ الضَّعِيفَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، الْعَظِيمَ عِنْدَ رَبِّ النَّاسِ.

يَجُرُّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَيَطْرَحُهُ عَلَى الرَّمْضَاءِ الْمُلْتَهِبَةِ، ثُمَّ يَضَعُ الْحَجَرَ الْعَظِيمَ عَلَى صَدْرِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَعْبُدَ آلِهَتَنَا.

فَمَاذَا قَالَ بِلَالٌ؟

هَلْ تَزَعْزَعَ؟

هَلْ خَافَ الْمَوْتَ؟

هَلْ رَجَعَ عَنِ الْحَقِّ؟

لَا وَاللَّهِ…

بَلْ كَانَ صَوْتُهُ يَعْلُو مِنْ تَحْتِ السِّيَاطِ وَالْحَرِّ وَالْأَذَى وَهُوَ يَقُولُ:

«أَحَدٌ… أَحَد»

كَلِمَةٌ تَفَجَّرَ مِنْهَا نُورُ الْيَقِينِ، وَتَجَلَّتْ فِيهَا عَظَمَةُ الصَّبْرِ، فَثَبَّتَهُ اللَّهُ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ فِي الْعَالَمِينَ.

ثَّمَ تَأَمَّلُوا الصحابي الجليل خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَيْفَ كَانُوا يُسْلِطُونَ عَلَيْهِ النَّارَ، فَيُوضَعُ عَلَى ظَهْرِهِ الْحِجَارَةُ الْمُلْتَهِبَةُ، حَتَّى أُطْفِئَتِ النَّارُ بِدَمِ ظَهْرِهِ، وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إِلَّا ثَبَاتًا وَإِيمَانًا.

وَكَانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا: «أَلَا تَدْعُو لَنَا؟»

فَقَالَ لَهُ ﷺ:

«وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ».

فَثَبَتَ خَبَّابٌ، وَثَبَتَتْ مَعَهُ أُمَّةٌ بِأَسْرِهَا

وَهَذَا صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ رَجُلٌ تَرَكَ مَالَهُ وَبَيْتَهُ وَكُلَّ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: أَتَأْتِينَا صُعْلُوكًا فَقِيرًا ثُمَّ تَخْرُجُ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ؟

قَالَ: إِنْ جَعَلْتُمُوهُ لِي فَهُوَ لَكُمْ.

فَتَرَكَهُمْ وَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ:

«رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ».

فَمَا رَبِحَ إِلَّا لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلَّهِ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ.

وَهَكَذَا – عِبَادَ اللَّهِ – يَثْبُتُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْحَقِّ، لَا تُزَحْزِحُهُ الْفِتَنُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الشَّدَائِدُ، لِأَنَّ قَلْبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِاللَّهِ، يَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

 

 

 

 

الخطبة الثانية

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ، عِبَادَ اللَّهِ:

إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِ اللَّهِ لَيْسَ تَشَدُّدًا، وَلَا تَعَصُّبًا، وَلَا انْغِلَاقًا، وَلَكِنَّهُ ثَبَاتُ قَلْبٍ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، وَاسْتِقَامَةُ نَفْسٍ عَلَى هَدْيِ نَبِيِّهَا ﷺ، وَصَبْرٌ عَلَى الْأَوَامِرِ، وَثِقَةٌ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُعِينُ عَلَى الثَّبَاتِ – عِبَادَ اللَّهِ – تَجْدِيدُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ؛ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ، وَمُصَاحَبَةِ الصَّالِحِينَ، وَالِابْتِعَادِ عَنْ مَوَاطِنِ اللَّهْوِ وَالْفِتْنَةِ، وَالنَّظَرِ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.

يَا عِبَادَ اللَّهِ:

الدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاءٍ، وَالْفِتَنُ فِيهَا مُتَجَدِّدَةٌ، وَالشَّيْطَانُ لَا يَمَلُّ، وَالنَّفْسُ ضَعِيفَةٌ، وَالطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ،

فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَبْلِهِ، وَادْعُوهُ دُعَاءَ الْخَائِفِينَ الرَّاجِينَ.

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِكُمْ ﷺ – وَهُوَ أَثْبَتُ النَّاسِ – أَنَّهُ يَقُولُ:

«اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَلَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».

اَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ.

اَللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا، وَتَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا.

اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ قُلُوبَنَا، وَاسْتَعْمِلْنَا فِي طَاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَبَلِّغْنَا رِضَاكَ وَجَنَّتَكَ.

اَللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُورِنَا لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ، وَأَدِمْ عَلَى بِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْإِيمَانَ، وَالرَّخَاءَ وَالِاسْتِقْرَارَ.

صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ قَائِلًا:

﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ

المرفقات

1763058089_نماذج من الثبات… دروس من سير السالفي.pdf

المشاهدات 399 | التعليقات 0