هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (9/5/1447)
أحمد بن ناصر الطيار
الحمد لله الذي أظهر الحق وأوضحه، وكشف عن سبيله وبيَّنه، وهدى من شاء من خلقه إلى طريقه، وشرح به صدره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده الذي لا شريك له، شهادةَ مقرٍّ بعبوديته، ومُذْعن بألوهيته، ومتبرئ عن الحول والقوة إلا به، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه إلى الخلق كافة، وأمره أن يدعو الناس عامة؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم كان جالسًا يومًا مع أصحابه، فأقبل رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحدٌ ممن كان عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعجب الصحابة من ذلك، وحُقّ لهم أن يتعجبوا؛ لأن الواحد إذا أقبل من غير المدينة فإنه يُقبل أشعث أغبر، أما أن يكون في المدينة وليس عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد؛ فهذا أمرٌ غريب, خاصة في الأزمان السابقة.
فجلس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، جلسةَ الطالب المتأدّب، ثم سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة أسئلة, والصحابة من حولهما يسمعون وينظرون ويتعجبون، قال: «يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلا».
أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة.
فقال هذا الرجل السائل: «صدقت»، يقول عمر بن الخطاب راوي الحديث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فعجبنا منه يسأله ويصدّقه»، وحقّ له أن يتعجب، لأن الطالب حينما يسأل الأستاذ فإنه يسأل عن أمر لا يعلمه، أما أن يسأل عن شيء وهو يعلمه فيقول: صدقت، فليس هذا معتادًا.
ثم سأل سؤالًا آخر؛ فقال: «أخبرني عن الإيمان؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره»، أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الإيمان متعلق بالأعمال القلبية، وأركانه ستة كما ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«أن تؤمن بالله»، أي: تصدق تصديقًا جازمًا لا يتطرقه شك ولا ريب أن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، وأنت مصدق تصديقًا جازمًا ومؤمن أن العبادة لا تُصرف إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالدعاء لله، فلا تدعو غير الله من أصحاب القبور وغيرهم.
التوكل على من؟ على الله، الرجاء يكون لمن؟ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الخوف ممن؟ من الله، وهكذا بقية أعمال القلوب، تُصرف إلى الله جَلَّ وَعَلَا، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
ويجب أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره, فما قدّره الله جَلَّ وَعَلَا عليك من خير أو شر فهو مكتوب محسوم، فأنت يا عبد الله تفعل الأشياء بإرادتك ومشيئتك، لكن مشيئتك تحت مشيئة الله جَلَّ وَعَلَا، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].
فقال الرجل: «صدقت»، ثم سأل سؤالًا ثالثًا؛ فقال: «أخبرني عن الإحسان؟»، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، يا لها من مرتبة عظيمة، فالإحسان هو: أن تؤمن أشد الإيمان، وأن تبلغ مرتبةَ اليقين بالله جَلَّ وَعَلَا، حتى تكون من شدة يقينك كأنك ترى الله جَلَّ وَعَلَا بعيني قلبك، ومن شدة إيمانك بالله وآياته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ترى الله بنور القلب, «فإن لم تكن تراه»، أي لم تبلغ هذه المنزلة فإن الله يراك، قال تعالى: {الذي يراك حين تقوم * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
هذه مرتبةُ الإحسان، فلتكن همتك وعزيمتك أن تبلغها، وكيف ذلك؟
بشدة إيمانك بالله جَلَّ وَعَلَا وكثرة عبادتك ودعائك، ادع الله جَلَّ وَعَلَا دائمًا أن يبلّغك مرتبة الإحسان، وحافظ على الصلوات، وعلى أوامر الله، واجتنب ما نهاك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه, وسوف يُقرّ الله عينك، وتبلغ مرتبة الإحسان بإذن الواحد الكريم المنان سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم سأله عن وقت الساعة وعن علاماتها، فأجابه النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لا يعلمها إلا الله، وأخبره أنّ من علاماته: «أن تلد الأمة ربتها»، وذلك حينما فتح المسلمون البلدان, واستحوذوا على الإيماء, فتكون بنتُ الخليفة هي ربةَ البيت، والثاني قال: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان».
نسأل الله تعالى أن يبلّغنا مرتبة الإحسان، وأن يعصمنا من الكفر والفسوق والعصيان، إنه على كل شيء قدير.
***************
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: معاشر المسلمين، وبعد أن أنهى السائل هذه الأسئلة انطلق ذاهبًا، قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فلبثت مليًا؛ ثم قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم»، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»، أي هذا السائل هو جبريل، تصوّر بصورة رجل، وقد كان عَلَيْهِ السَّلَامُ كثيرًا ما يتمثل بصورة دحية الكلبي رضي الله عنه، وقد رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصورته التي خلقها الله عليها مرتين، وقد سدّ الأفق عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وقد بلّغ الصحابة هذا الحديث حتى وصلنا، فيجب علينا أن نعمل بهذا الحديث، وأن نعمل بأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وأن تعْلوا هِمَمُنا وتقوى عزائمنا بأن نبلغ المرتبة الثالثة وهي مرتبة الإحسان، اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين، إنك جوادٌ كريم.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.
عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.