وإنَّ لكم في آبَ لعبرةً
د. سلطان بن حباب الجعيد
وَإِنَّ لَكُمْ فِي آبَ لَعِبْرَةً
الحَمْدُ لِلَّهِ العَلِيِّ القَدِيرِ، خَلَقَ الزَّمَانَ فَجَعَلَهُ خِلْفَةً بَيْنَ حَرٍّ وَزَمْهَرِيرٍ، وَكَمْ فِي هذَا القَانُونِ، مِنْ حِكْمَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَخَيْرٍ كَثِيرٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ ذِي لُبٍّ بَصِيرٍ، عَرَفَ بِذَلِكَ أَنَّ إِلَى رَبِّهِ المَصِيرُ.
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى البَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ، مَا دَامَ كُلُّ كَوْكَبٍ فِي فَلَكِهِ يَسِيرُ.
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّ فِيهَا الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ لِلمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ [النَّبَأ: ٣١]
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَا قَدْ حَلَّ عَلَيْنَا شَهْرُ آبَ، وَهُوَ الشَّهْرُ المَعْرُوفُ بِشِدَّةِ حَرِّهِ.
وَلِأَنَّ المُسْلِمَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ مُعْتَبِرٌ، فَإِنَّ لَنَا فِي شَهْرِ آبَ لَعِبْرَةً:
وَمِنْ عِبَرِهِ، أَنَّ شِدَّةَ حَرِّهِ تُذَكِّرُنَا بِشِدَّةِ نَارِ جَهَنَّمَ - أَجَارَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهَا -، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: “اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ”. [البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: “إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ”. [البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]
وَأَبْرِدُوا: أَيْ أَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْكَسِرَ الحَرُّ.
فَمَا أَحْوَجَنَا - مَعْشَرَ الإِخْوَانِ - أَنْ نَجْعَلَ الآخِرَةَ نُصْبَ أَعْيُنِنَا دَائِمًا، فَإِنْ رَأَيْنَا نَعِيمًا تَذَكَّرْنَا نَعِيمَ الآخِرَةِ، وَإِنْ رَأَيْنَا شِدَّةً وَعَذَابًا تَذَكَّرْنَا عَذَابَ الآخِرَةِ.
وَتَذَكُّرُ الآخِرَةِ، فَضْلٌ يَمْتَنُّ اللَّهُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَشَدَّ مِنْ دَاءِ الغَفْلَةِ إِذَا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ العِبَادِ.
قَالَ اللَّهُ مُمتَنًّا بِهذِهِ الخَاصِّيَةِ، عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ:
﴿وَاذكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [ص: ٤٥-٤٧]
فَمَنْ تَذَكَّرَ الآخِرَةَ، صَلُحَ شَأْنُهُ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ، وَخَلَصَ عَمَلُهُ، وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ.
وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا، وَأَضْحَتْ بَعِيدَةً عَنْ وِجْدَانِهِ وَفِكْرِهِ، كَثُرَ خَطَلُهُ، وَقَسَا قَلْبُهُ، وَانْحَرَفَ مَسَارُهُ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ.
وَقَدْ رَبَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ، بَيْنَ سُوءِ العَمَلِ وَعَدَمِ الإِيمَانِ بِالآخِرَةِ وَالخَوْفِ مِنْ عَذَابِهَا.
قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النَّمْل: ٤]
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدَّثِّر: ٤٢-٤٧]
فَلْنَجْعَلْ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ الَّتِي نُعَانِيهَا وَلَا نُطِيقُهَا، عِبْرَةً وَمُزْدَجَرًا، وَلْنُذَكِّرْ أَنْفُسَنَا إِذَا حَدَّثَتْنَا بِسُوءٍ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التَّوْبَة: ٨١]
وَمِنْ عِبَرِهِ، أَنَّ شِدَّةَ الحَرِّ هذِهِ، سَبَبٌ لِنُضْجِ الثِّمَارِ وَالفَوَاكِه، وَكَأَنَّ هذَا يَقُولُ لَكَ: لَا تَبْتَئِسْ بِالمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ الَّتِي تَنْزِلُ بِكَ؛ فَإِنَّهَا تُنْضِجُكَ وَتُخْرِجُ أَحْسَنَ مَا فِيكَ، فَالمَصَائِبُ مَصَانِعُ الرِّجَالِ.
بِهَا يَشْتَدُّ تَعَلُّقُكَ بِرَبِّكَ، وَبِهَا يَصْلُبُ عُودُكَ وَيَشْتَدُّ، وَبِهَا تَعْرِفُ مَعَادِنَ الرِّجَالِ وَحَقَائِقَهُمْ، وَبِهَا تَعْرِفُ نَفْسَكَ وَمَوَاطِنَ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا.
فَتَخْرُجُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، شَخْصًا آخَرَ، لَا يَمُتُّ لِلْأَوَّلِ بِصِلَةٍ، قَدْ صَقَلَتْهُ الشِّدَّةُ، فَخَلَّصَتْهُ مِنْ شَوَائِبِهِ، فَأَصْبَحَ ذَهَبًا خَالِصًا،أَوْ ثَمَرًا يَانِعًا كَالَّذِي نَنْعَمُ بِأَكْلِهِ هذِهِ الأَيَّامِ.
وَالنَّاظِرُ فِي أَحْوَالِ العُظَمَاءِ، يَلْحَظُ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَا بَلَغُوا إِلَّا عَلَى جِسْرٍ مِنَ المِحَنِ وَالابْتِلَاءَاتِ.
سَأَلَ رَجُلٌ الشَّافِعِيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ: أَنْ يُمَكَّنَ أَمْ يُبْتَلَى؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: “لَا يُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى، فَإِنَّ اللَّهَ ابْتَلَى نُوحًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمَّا صَبَرُوا مَكَّنَهُمْ، فَلَا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنْ يُخَلَّصَ مِنَ الأَلَمِ البَتَّةَ”.
فَإِذَا وَاجَهَتْكَ الصِّعَابُ وَالشَّدَائِدُ، وَأَنْتَ فِي طَرِيقِكَ لِتَحْقِيقِ آمَالِكَ، فَلَا يُحْزِنْكَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُكَابَدَتَهَا شَرْطُ النَّجَاحِ.
وَبِذَلِكَ تُكْتَسَبُ المَكَارِمُ وَالعُلَا
فَالصَّعْبُ يَصْقُلُ نَفْسَ مَنْ يَتَحَمَّلُهْ
فَمَنْ قَعَدَ عَنِ العَمَلِ وَتَحَدِّي الصِّعَابِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَمَسَّهُ الأَلَمُ، وَظَنًّا بِالرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، بَقِيَ طُولَ عُمْرِهِ شَجَرًا لَنْ تَتَفَتَّقَ أَكْمَامُهُ عَنْ ثَمَرٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ وَيَعْصِرْهُ حَرُّ الشَّدَائِدِ وَالمَكَارِهِ.
بِقَدْرِ الكَدِّ تُكْتَسَبُ المَعَالِي
وَمَنْ طَلَبَ العُلَا سَهِرَ اللَّيَالِي
وَمَنْ رَامَ العُلَا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ
أَضَاعَ العُمْرَ فِي طَلَبِ المُحَالِ
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ
الثانية:
وبعدُ:
ومن عِبَرِ هذا الشهرِ، أنَّ حرَّهُ مهما طال، فهو إلى انقطاعٍ وتوقُّفٍ، فقد كتبَ اللهُ له أجلًا لا يتقدَّمُه ولا يتأخَّرُه، وكأنَّ ذلك يقولُ لك: وكذلكَ كلُّ شدَّةٍ تُصيبُكَ، فإنَّها إلى زوالٍ وانقطاعٍ.
فكما أنَّ اللهَ كتبَ ألَّا يجعلَ الحرَّ سرمدًا عليكَ طولَ عامِكَ، فكذلكَ كتبَ ألَّا يجعلَ الهمومَ والأحزانَ عليكَ سرمدًا طولَ حياتك.
فاستبشِرْ، واعلَمْ أنَّ همَّكَ سيزولُ عنكَ، كما سيزولُ عنكَ هذا الحرُّ عما قريبٍ. وأنتَ في انتظارِ الفرجِ والفَرحِ، مثلُكَ في انتظارِ الشتاءِ والرَّبيعِ الذي سيَعقُبُ هذا القَيْظِ، وهو آتٍ لا محالةَ.
يُحكى أنَّ ملكًا قالَ لوزيرِه: اكتُبْ لي ما إذا قرأتُهُ وأنا مَكروبٌ خفَّفَ عنِّي، فنقشَ له على خاتمهِ هذه العبارةَ: “هذا الوقتُ سيمضي.”
دعِ الأيَّامَ تَفْعلُ ما تشاءُ
وطِبْ نفسًا إذا حكمَ القضاءُ
ولا تَجزَعْ لنازلةِ الليالي
فما لِحوادثِ الدُّنيا بقاءُ
هذا، وصلُّوا وسلِّموا…
المرفقات
1753975801_وإنّ لكم في آب لعبرة.docx
1753975970_وإنّ لكم في آب لعبرة.pdf