وقفات مهمة مع نهاية العام 1446/12/24هـ
عبد الله بن علي الطريف
وقفات مهمة مع نهاية العام 1446/12/24هـ
أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده توالي مواسم الخيرات.. ليستثمروها ويزدادوا تقربًا إليه؛ وهي فُرَصٌ.. مَنْ وُفِقَ لاغتنامِها وُفِقَ لخيرٍ كثير..
وشهر الله المحرم موسم من مواسم الطاعات فقد خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- بِالنسْبَةِ إِلَى الله فقَالَ: «شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ». رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. واختاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لبداية العام، قالَ ابنُ حجر رَحِمَهُ اللهُ في فتح الباري: "عَنْ الشَّعْبِىِّ قَالَ: إِنَّ أَبَا مُوسَى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما إِنَّهُ يَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَارِيخٌ؛ فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَرِّخْ بِالْمَبْعَثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرِّخْ بِالْهِجْرَةِ؛ فَقَالَ عُمَرُ: الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَأَرِّخُوا بِهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ فَلَمَّا اتَّفَقُوا قَالَ بَعْضُهُمْ: ابْدَءُوا بِرَمَضَانَ؛ فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ بِالْمُحَرَّمِ؛ فَإِنَّهُ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ فِي تَارِيخِهِ. وَإِنَّمَا أَخَّرُوهُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى الْمُحَرَّمِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ إِذِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ ذِي الْحِجَّةِ وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْهِجْرَةِ فَكَانَ أَوَّلُ هِلَالٍ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْبَيْعَةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ مُبْتَدَأً..
الْمُحَرَّمِ أحدُ الأشهرِ الحرم التي قال الله عنها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ..) [التوبة:36].
وحَدَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- الأشهر الحُرُم بِذِي القَعْدَةِ وَبِذِي الحِجَّةِ وَالـمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ كما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَالَ: «شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ» رواه ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: هذا تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم.. وسماه شهر الله لتشريفِه وتعظيمه، وكلُ معظمٍ يُنسبُ إليه سبحانه.. ولذا يسن الإكثار فيه من الصيام لاغتنامِ هذا الفضل.. قال بعضهم: إنما هو غداء وعشاء فإن أخرت غداءك إلى عشاءك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين..
أيها الإخوة: وهنا أمور أود بيانها أولها: إن من حكمته تعالى أنه أوجد لنا معالم في هذا الكون تحملنا على الذكرى.. انظروا إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال.. ثم تنمو رويدًا، رويدًا كما تنمو الأجسام.. حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال..
وهكذا الأعوام تتجدّد على الإنسان عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا فينصرم العامُ كلمح البصر فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به وقد هجم عليه الموت وصار خبر بعد عين..
يؤمّل الإنسان بطولِ العمر ويتسلَّى بالأماني فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الآمال قد انهدَم.. قال أبو الدرداء -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك.. وقال أبو حازم: عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة.
أيها الإخوة: إذا كانت الأيام كذلك فينبغي لكل واحد منا أن يقف مع نفسه ويحاسبها محاسبةً جادة قبل أن تحاسب قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:18،19] قال ابن كثير أي: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَانْظُرُوا مَاذَا ادَّخَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَوْمِ مَعَادِكُمْ وَعَرْضِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ..".
والمحاسبة: "أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عمل مثله". اهـ. قاله الماوردي رَحِمَهُ اللهُ في أدب الدنيا والدين
قال أبو حامد الغزالي: اعلم أن العبدَ (ينبغي أن) يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، وينبغي أن يكون له فِي آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةٌ يُطَالِبُ فِيهَا النَّفْسَ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى جَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، كَمَا يَفْعَلُ التُّجَّارُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ..
أيها الإخوة: وللمحاسبة فوائد متعدّدة ومنافع متكاثرة، منها: الاطلاع على عيوب النفس ومثالِبها ونقائِصها، فمن اطلع على عيب نفسه أنزلها منـزلَها وبادر في إصلاحها.
ومنها: أنها تربي الضمير الحيّ، عند الإنسان وتنمي الشعور بالمسؤولية، ووزن الأعمال بميزان دقيق هو ميزان الشرع، قال ابن القيم: أضرّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب. اهـ.
وَقِيلَ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلانِ فِيك فَاعْمَلْ فِيهِمَا. وَقَالَ آخَرُ: اعْمَلُوا لآخِرَتِكُمْ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَسِيرُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ.. وقال الأخر:
نسيرُ إلى الآجال فِي كلِ لحظةٍ وأعمارُنا تطوى وهنَّ مراحلُ
ترحل من الدنيا بزادٍ من التقـى فعمــرُك أيـامٌ وهُنَّ قلائـلُ
أيها الإخوة: لننظر في صحائف أيامنا التي خلت من سنين ما الذي ادخرنا فيها لآخرتنا؟! لننظر بماذا تكلم اللسان؟! وماذا رأت العينان؟! وماذا سمعت الأذنان؟! وأين مشت القدمان.؟! وبماذا بطشت اليدان.؟! ولنحاسب أنفسنا على الفرائض ماذا أدينا منها.؟ والمنهيات ماذا تركنا منها.؟ ونحاسبها على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، وهي تحثُّ بنا السير إلى الآخرة..
روي أن أبا الدرداء -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سمع رجلاً يسأل عن جنازة مرت يقول من هذا؟ فقال أبو الدرداء -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- "هذا أنت" يعني أن الجميع إلى هذا المصيرِ صائر فاستعدّ لذلك. ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.. اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، وبارك في أعمالنا وأعمارنا، واختم بالصالحات أعمالَنا، وصلى وسلم الله على محمّد..
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها الإخوة اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن محاسبة النفس ليست مقصورة على نهاية العام كما يتناقله الناس في مثل هذه الأيام.. بل الواجب على المسلم أن يقف مع نفسه كل يوم يحاسبها على ما قدمت وأخرت فالأيام خزائن الأعمال.. ولذلك يقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ». رواه مسلم عَنْ الْأَغَرِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. والتوبة ولاستغفار جزء من المحاسبة ونتيجة لها.. وعلى هذا فقصرها على نهاية العام خطأ..
أحبتي: من الأمور التي يكثر تبادلها بين الناس في بداية العام الهجري التهنئة فما حكمها.؟ الأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة وهي من الأمور العادية وليست من الأمور التعبدية.. وقد بعث الشيخ عبدالرحمن السعدي رَحِمَهُ اللهُ كتابا لأحد طلابه وكان في ديباجة رسالته: ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم ودفع عنا وعنكم النقم..
واعلموا أنَّ ربط طي الصحائف بنهاية العام الهجري خطأ ولا أصل له..
ذلك أن الأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» أي أخروا. رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أسأل الله أن يوفقنا لإتباع هدي رسولنا إنه جواد كريم.. وصلوا وسلموا..
https://t.me/+iSRXA4HV_oFmMDc0
رابط التلقرام