ولا يزالُ الوأدُ مستمراً

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/06/20 - 2025/12/11 15:28PM

ولا يزالُ الوَأْدُ مُستمرًّا.

 


الحمدُ للهِ الذي خلقَنا مِن ذَكَرٍ وأُنثى، وجعلَنا مِن بينِ سائرِ مخلوقاتِهِ على الصُّورةِ المُثلى، وشَرَّفَنا بتكليفِهِ؛ فمَن أطاعَ ارتقى به إلى العُليا، ومن خالفَ وعصى هَوَى به إلى السُّفلى.

والصلاةُ والسلامُ على خيرِ الوَرَى، وأشرفِ مَن وَطِئَ الثَّرَى، مَن دلَّنا اللهُ به إلى سُبُلِ الهُدَى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا.

 


أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ كما أوصاكم بذلك في كتابهِ، فقال:

﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾ [النساء: ١]

 


أيُّها الإخوةُ الكرامُ: جاءَ الإسلامُ وبَزَغَ فجرُه، وكثيرٌ من الحقوقِ مُضيَّعةٌ ومهدرةٌ، وخاصةً حقوقُ الضُّعفاء، فأعادَ الأمورَ لِنِصابِها، وأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ورسمَ الحدودَ التي لا يجوزُ لأحدٍ تخطِّيها:

﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُ﴾ [الطلاق: ١]

 


والمرأةُ ممَّن جاءَ الإسلامُ وهي مُهدرةُ الحقوق، مَهيضةُ الجانب، مُحتقرةٌ ومُزدراة.

وقد بَلَغَ بالجاهليةِ الأولى في احتقارِها للمرأةِ أن رأتْها كائنًا جالبًا للعار، وعِبئًا على الحياة، لا تستحقُّ العيش، ويجبُ التخلّصُ منها، بدفنِها وهي حيَّة!

 


قال اللهُ تعالى، مُثبِتًا لهذه الحقيقةِ الاجتماعيّةِ والتاريخيّة:

﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدًّا وَهُوَ كَظيمٌ ۝ يَتَوارى مِنَ القَومِ مِن سوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمسِكُهُ عَلى هونٍ أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ۗ أَلا ساءَ ما يَحكُمونَ﴾ [النحل: ٥٨–٥٩]

 


وإنْ سلِمَتْ مِن هذا المصير، وقررتِ الجاهليةُ الأولى أن تُبقيها حيَّة، وتُمسكَها على هونٍ، ترجمتْ هذا الهوانَ في مجموعةٍ من التشريعاتِ الجائرة، في النكاحِ والطلاقِ والعدَّةِ والميراث.

فهي لا تُورّثُ، بل تُجعَلُ من ضمنِ تركةِ الميت، التي يحقُّ لِمن شاءَ من أقاربه أن ينكحَها، بالمهرِ الذي يريدُ، دونَ أن تملكَ أمرَ نفسِها.

وكان إذا أبغضَها زوجُها، أتاحتْ له تشريعاتُ الجاهليةِ أن يطلِّقَها بلا عددٍ، فكلما أوشكتْ عِدَّتُها على الانتهاء، راجعَها، حتى تَمكُثَ طولَ عُمرِها في عِدَّةٍ، لا مُزوّجةً ولا مُطلّقةً، فيُضارُّها بذلك.

وإذا ماتَ زوجُها، ألزَمَتْها هذه التشريعاتُ أن تعتدَّ عامًا كاملًا، في أضيقِ مكانٍ في بيتِها وأسوئِه، مرتديةً شَرَّ ثيابِها، تاركةً كلَّ أنواعِ الزينةِ والنظافة.

 


فأوقفَ الإسلامُ هذا البغيَ عليها، وشرعَ لها مِن الحقوقِ في كافةِ شؤونِها ما ضَمِنَ به حقَّها وكرامتَها.

وبيَّن أنها أحدُ رُكنَي الوجودِ الإنساني، الذي لا تستقيمُ الحياةُ بدونِه، وليستْ مجرَّدَ عبءٍ على الحياةِ يجبُ التخلصُ منه.

وكما سعتِ الجاهليةُ في أسبابِ موتِها، فقد سعى الإسلامُ في أسبابِ حياتِها.

قال صلى اللهُ عليه وسلم: “مَن عالَ جاريتينِ، دخلتُ أنا وهو الجنَّةَ كهاتين” وأشارَ بأصبُعَيْهِ. [مسلم]

 


ولكن — معشرَ الإخوةِ — قصةُ احتقارِ المرأةِ لم تنتهِ بعد؛ فالمرأةُ تُعاني مِن احتقارِها عند كلِّ الأممِ قديمًا وحديثًا. وكأنَّ احتقارَ المرأةِ نَزعةٌ بشريةٌ جاهليةٌ تحتاجُ إلى الإصلاحِ في كلِّ حين.

وعندما نظنُّ أن هذه النَّزعةَ انتهتْ بالقضاءِ على جريمةِ دفنِها وهي حيَّة، نكونُ قد أخطأنا؛ لأن الذي انتهى هو أحدُ تجلّياتِ هذا الاحتقار.

 


ولِيُعلَمْ أن أحدَ أهمِّ وأخطرِ مظاهرِ احتقارِ المرأةِ في هذا العصر، هو فكرةُ مساواتِها بالرجلِ مُطلَقًا، فيما تصحُّ مساواتُها به وفيما لا تصحُّ، ومحاولةُ إلحاقِها به في كلِّ ما يخصُّه.

فحقيقةُ هذه الدعوةِ: أن المرأةَ بطبيعتِها التي خلقَها اللهُ عليها، حقيرةٌ، حتى تصلَ إلى مَصافِّ الرجلِ وتكونَ مثلَه!

 


وقد تُصيبُك الدهشةُ إذا قلت لك: إن هذه الفكرةَ وليدةُ الفكرِ الغربيِّ المادّي، الذي يتشدَّق كثيرًا بحقوقِ المرأة، ويروِّجُ لنفسِه، ويروِّجُ له ممثلوه، أنه نصيرُ المرأةِ وحاميها.

فأنتجَ هذا الفكرُ في كلِّ أرجاءِ الأرض — إلا من رحمَ الله — ظاهرةَ النساءِ المُتمرّداتِ على أنوثتِهن، الشاعراتِ بالعارِ مِن أنفسِهن، والمتخلِّياتِ عمّا كلَّفَهنَّ اللهُ به من أدوارِهن.

 


فألقتِ الحجابَ حتى تكونَ سافرةً كالرجل، وولَّت ظهرَها بيتَها وأطفالَها، ويَمَّمَتْ وجهَها شطرَ ميادينِ الرجالِ التي تخصُّهم، وعملتْ في الأعمالِ الشاقة كالمناجمِ والمصانع، وتخلَّتْ عن رِقَّتِها، فأصبحتْ قويةً؛ تُحارِب وتُلاكِم وتُصارِع وتُخاصِم.

والغربُ بإعلامِه يُشجِّعُها، ويَمُدُّها في غَيِّها، ويُشعِرُها بأنها قد حققتْ ذاتَها، وهي في حقيقةِ أمرِها قد خسِرَتْها.

وأنها ملكتْ حريَّتَها، وهي في حقيقةِ أمرِها تمردَتْ على فطرتِها.

وأنها أعلَتْ مِن شأنِ نفسِها، وهي في حقيقةِ أمرِها قد أرخصَتْها واحتقرَتْها.

وأنها انتصرَت على منافسِها، وهي في حقيقتِها سجَّلَتْ مدى إعجابِها به وشغفِها بحياتِه.

 


فَوُئِدَتْ ودُفِنَتْ بكلِّ ذلك، كما وُئِدَتِ المرأةُ الأولى، ولكن ليس في التراب، بل في الرجل.

وإذا كانَ الجاهليُّ الأوَّلُ قادَها إلى وَأْدِها وهي كارِهة، فالفكرُ الغربيُّ الجاهليُّ اليومَ — بذكائِه ودهائِه — قادَها إلى وَأْدِها، وهي تُشاطِرُه احتقارَها لنفسِها، وتعلنُ أثناءَ مراسمِ دَفْنِ أنوثتِها في الرجل: أنها مُستحقَّةٌ لذلك!

 


أقولُ قولي هذا ..

 


الثانية:

وبعدُ

أيها الإخوةُ الكرامُ، كما تبيَّنَ لكم ممّا سَلَف، فإن هذه الدعوةَ الغربيةَ، في ظاهرِها تحريرٌ للمرأةِ وتكريمٌ لها، وفي باطنِها احتقارٌ لها وازدراءٌ لدورِها.

وبما أنَّ الوَأْدَ للمرأةِ مُستمرٌّ، فكذلك نُصرةُ الإسلامِ لها مُستمرّةٌ.

 


فالإسلامُ يُقابِلُ هذه الدعوةَ بفلسفةٍ عميقةٍ، قائمةٍ على احترامِ المرأةِ ودورِها.

فهي في نظرِه ذاتُ قيمةٍ، لا تحتاجُ — حتى تَجلِبَ قيمةً لنفسِها — أن تُفَتِّشَ في غيرِها، أو أن تبحثَ عن ذاتِها خارجَ كيانِها، أو أن تتطفَّلَ على أدوارٍ ليستْ لها.

 


وهي كذلك فلسفةٌ تقومُ على التفريقِ بين الرجلِ والمرأةِ، ليس في الخِلقةِ فحسب، بل حتى في عملِ كلٍّ منهما ودورِه.

فالحياةُ — في النَّظرِ الإسلاميِّ — لا تقومُ إلا على دَوْرَيْنِ مهمَّيْنِ وأساسيَّيْن:

أحدُهما داخلَ البيت، وهو ما أُنيطَ بالمرأة، والآخَرُ خارجَ البيت، وهو ما أُنيطَ بالرَّجُل.

 


ولا يَتميَّزُ أحدُ الدَّورَيْن ولا يَفضُلُ على الآخرِ إلا بقدْرِ ما يُبدِع فيه صاحبُه، ويُؤدِّي ما طُلِبَ منه على أكملِ وجهٍ.

فليس عملُ الرجلِ ممّا يُرغَبُ فيه ويُقصَدُ لذاتِه، إنما هو تكليفٌ لا تشريف، جاءَ مُتوافِقًا مع ما أرادَه اللهُ منه، وفطَرَه عليه، وهيَّأه له.

وليس في عملِ المرأةِ ما يُرغَبُ عنه ويُزَهَّدُ فيه، إنما هو تكليفٌ شريفٌ؛ فإن أصَرَّت المرأةُ على احتقارِه وتركِه، فقد عطَّلَتْ نصفَ المهمةِ التي أُريدَتْ مِن البَشَر.

 


وفي هذا السِّياقِ يُفهَمُ حرصُ الإسلامِ على الفَصْلِ بين حدودِ الجنسَيْن، وتحريمُ التشبُّهِ بينهما؛ فليس هو مجرَّدَ نهيٍ عن بعضِ المظاهرِ المرتبطةِ باللِّباس، أو المشي، أو طريقةِ الحديث، أو طبقةِ الصوت، بل ذلك لأمرٍ أعظمَ وأعمقَ.

عن ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم:

“لَعَنَ اللهُ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجالِ بالنِّساءِ، والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرِّجالِ”. [رواه البخاري]

 


وقال اللهُ تعالى:

﴿وَلا تَتَمَنَّوا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ ۚ لِلرِّجالِ نَصيبٌ مِمَّا اكتَسَبوا وَلِلنِّساءِ نَصيبٌ مِمَّا اكتَسَبنَ ۚ وَاسأَلُوا اللَّهَ مِن فَضلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمًا﴾ [النساء: ٣٢]

 


وبهذا الفَصْلِ، والحفاظِ على هذه الحدودِ، يُحقِّقُ الإسلامُ نوعًا من العلاقةِ بين الرجلِ والمرأةِ تَكامُليًّا، قائمًا على الاحترامِ والوُدِّ المتبادَلِ، والشعورِ بالقيمةِ والأهمية.

فهي تقومُ بدورٍ يحتاجُه الرجلُ ولا يُحسِنُه، وهو يقومُ بدورٍ تحتاجُه المرأةُ ولا تُحسِنُه.

 


مُتجافيًا بذلك عمّا أفرَزَه الغربُ من العلاقةِ القائمةِ على التنافُسِ والمُزاحمة، وهي التي أفرزَتْ خُصومةً وعداءً بين المرأةِ والرجلِ.

 


وبمثلِ هذه الفلسفةِ العميقةِ، يُحقِّقُ الإسلامُ للمرأةِ استقلالَها الحقيقيَّ عن الرجلِ: بدورِها، وخِلقتِها، وطبيعتِها.

وليس الاستقلالَ الذي يُروِّجُ له الغربُ، وهو — في حقيقتِه — ذَوَبانٌ للمرأةِ في الرجلِ، وتبعيَّةٌ له.

 


فعلينا جميعًا أن نُعيدَ بناءَ هذه القِيَمِ في نفوسِنا، ونفوسِ بَناتِنا ونسائِنا.

ولنُعَلِّمْهُنَّ أن بيتَ إحداهُنَّ ليس سجنًا ومهانةً، بل هو ميدانٌ بجوارِ ميدانِ الرجلِ، فيه عزَّتُها وكرامتُها وقيمتُها.

 


ولنُذَكِّرْهُنَّ بحالِ المرأةِ الغربيةِ، التي انتزعَ منها هذا الفكرُ دَوْرَها وأنوثتَها، ثم اغتالَها، ولم يُبقِ منها إلا جسدَها للمُتعةِ الرخيصةِ، وليجعلَ منه أداةً للترويجِ لمنتجاتِه وسِلعِه، فقضى على البقيةِ المُتبقيةِ من كرامتِها.

 


وعلى المرأةِ — إذا نازَعَتْها نفسُها وهواها، وتطلَّعَتْ لدورِ الرجلِ وما في يدِه — أن تتقي اللهَ، وتَلْزمَ نفسَها بحدودِ الشرعِ، كما فَعَلْنَ الصحابياتُ رضي اللهُ عنهن، عندما تَطَلَّعْنَ لدورِ الرجالِ فُنْهينَ عن ذلك فانتَهَيْنَ.

 


عن أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها أنها قالت: "يا رسول الله، يَغْزو الرجالُ ولا تَغْزو النساءُ، وإنّما لنا نِصفُ الميراثِ.” فأنزل اللهُ تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.

[أحمد والترمذي]

 


هذا، وصلُّوا وسلِّموا..

المرفقات

1765456108_ولا يزال الوأد مستمرا ( وورد).docx

1765456109_ولا يزال الوأد مستمراً ( PDF).pdf

المشاهدات 295 | التعليقات 0