عناصر الخطبة
1/لماذا الحوار والإقناع في تربية المراهق؟ 2/كيف يستثمر المربي أسلوب الحوار والإقناع في تربية المراهق 3/طرق الحوار الناجح والإقناع الرابح في تربية المراهق 4/آثار الحوار والإقناع وثمارهما على المراهق 5/محاذير في محاورة المراهق وإقناعه.اقتباس
إِنَّ سُلُوكَ أُسْلُوبِ الْحِوَارِ مَعَ الْمُرَاهِقِ -مِنْ أَبٍ أَوْ مُعَلِّمٍ- يُشْعِرُهُ بِعَظِيمِ الْمَحَبَّةِ، وَخَالِصِ الْمَوَدَّةِ، وَيُشْعِرُهُ بِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَيَهْتَمُّ بِهِ، وَيَعْنِيهِ شَأْنُهُ، وَيُفْرِحُهُ صَلَاحُهُ... يَأْتِي الْحِوَارُ وَالْإِقْنَاعُ مَعَ الْمُرَاهِقِ لِكَوْنِ الْمُرَاهِقِ فِي مَرْحَلَةٍ يَكْثُرُ مِنْهُ فِيهَا الْعِنَادُ وَالشَّرَاسَةُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِلْإِنْسَانِ مَرَاحِلُ عُمْرِيَّةٌ، وَمَحَطَّاتٌ حَيَاتِيَّةٌ، لِكُلٍّ مِنْهَا مِيزَاتٌ، وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَاتٌ، مِنْهَا مَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ الَّتِي تَمْتَدُّ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَى الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ أَوِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَهِيَ مَرْحَلَةٌ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الصُّعُوبَاتِ؛ لِمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ؛ لِهَذَا كَانَ مِنَ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَالصَّوَابِ وَالْفِطْنَةِ: اسْتِعْمَالُ أَسَالِيبِ التَّعَامُلِ الْأَمْثَلِ مَعَ أَهْلِهَا مِنَ الْأَوْلَادِ وَالطُّلَّابِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْمُفِيدَةِ، وَالْوَسَائِلِ السَّدِيدَةِ: الْحِوَارُ وَالْإِقْنَاعُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْحِوَارَ مَنْهَجٌ قُرْآنِيٌّ، وَسَبِيلٌ نَبَوِيٌّ، يُوصِلُ إِلَى رَدِّ الْمُخْطِئِ عَنْ خَطَئِهِ، وَالْجَاهِلِ عَنْ جَهْلِهِ، وَسَيِّءِ الْفَهْمِ عَنْ سُوءِ فَهْمِهِ، أَوْ يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُبْطِلِينَ، وَيُعْذَرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ -تَعَالَى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النَّحْلِ:125].
وَجَاءَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: "ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا"، قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ "قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟" قَالَ: لَا وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ "قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟" قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ "قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ". قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
لِهَذَا -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فَإِنَّ سُلُوكَ أُسْلُوبِ الْحِوَارِ مَعَ الْمُرَاهِقِ -مِنْ أَبٍ أَوْ مُعَلِّمٍ- يُشْعِرُهُ بِعَظِيمِ الْمَحَبَّةِ، وَخَالِصِ الْمَوَدَّةِ، وَيُشْعِرُهُ بِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَيَهْتَمُّ بِهِ، وَيَعْنِيهِ شَأْنُهُ، وَيُفْرِحُهُ صَلَاحُهُ.
وَيَأْتِي الْحِوَارُ وَالْإِقْنَاعُ مَعَ الْمُرَاهِقِ لِكَوْنِ الْمُرَاهِقِ فِي مَرْحَلَةٍ يَكْثُرُ مِنْهُ فِيهَا الْعِنَادُ وَالشَّرَاسَةُ، وَحُبُّ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَارَضَةِ، فَأَحْسَنُ وَسِيلَةٍ تُخْرِجُهُ مِنْ عِنَادِهِ وَشَرَاسَتِهِ، وَتُطْلِقُهُ مِنْ مُعَارَضَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ: الْحِوَارُ مَعَهُ بِالطَّرِيقَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْوَسَائِلِ الْمُسْتَقِيمَةِ.
عِبَادَ اللَّهِ: لَعَلَّ لِبَعْضِكُمْ أَوْلَادًا أَوْ طُلَّابًا مُرَاهِقِينَ، وَقَدْ عَانَيْتُمْ مِنْهُمْ كَثْرَةَ الْعَثَرَاتِ، وَتَتَابُعَ الْمُخَالَفَاتِ، وَعَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ لِلنَّصَائِحِ وَالتَّعْلِيمَاتِ، وَاعْتِقَادَهُمْ صَوَابَ مَا يَصْنَعُونَ مِنْ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ، فَكَيْفَ تَسْتَثْمِرُونَ الْحِوَارَ وَالْإِقْنَاعَ لِتَقْوِيمِ عِوَجِهِمْ، وَاسْتِقَامَةِ حَالِهِمْ حَتَّى تَسْتَرِيحُوا مِنْ عِنَائِهِمْ، وَتَسْعَدُوا بِصَلَاحِهِمْ؟
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَحْسُنُ بِكُمْ مَعَ الْمُرَاهِقِ اخْتِيَارُ أُسْلُوبِ الرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي مُحَاوَرَتِهِ، وَسُلُوكُ طَرِيقِ الْخِطَابِ الْحَسَنِ فِي إِقْنَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ اللَّطِيفَةَ فِي الْحِوَارِ تُسْمَعُ وَتُقْنِعُ، وَتَزَعُ عَنِ الْخَطَأِ وَتَمْنَعُ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الْإِسْرَاءِ:53]، وَقَالَ -تَعَالَى-: آمِرًا بِاللِّينِ فِي الْحِوَارِ: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:43-44].
هَذَا وَفَرْعُونُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- طَاغِيَةُ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَيْفَ مَعَ وَلَدِكَ فِلْذَةِ كَبِدِكَ، أَوْ تِلْمِيذِكَ حَامِلِ رِسَالَتِكَ!
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، قَالَ: "كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ إِذَا رَأَى مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا يَأْمُرُهُ فِي رِفْقٍ، فَيُؤْجَرُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَإِنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ يَخْرِقُ بِصَاحِبِهِ، وَيَسْتَعْقِبُ أَخَاهُ، وَيَهْتِكُ سَتْرَهُ".
وَمِنَ اسْتِثْمَارِ الْحِوَارِ وَالْإِقْنَاعِ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِ: اسْتِغْلَالُ الْأَحْوَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْحِوَارِ، فَلَيْسَتْ كُلُّ الظُّرُوفِ دَائِمًا مُلَائِمَةً لِلْمُحَاوَرَةِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا الظَّفَرُ بِالْإِقْنَاعِ عَلَى فِعْلِ الصَّوَابِ وَتَرْكِ الْخَطَأِ، فَفِي وَقْتِ شِدَّةِ الْغَضَبِ الْكَبِيرِ، وَسَيْطَرَةِ الْحُزْنِ الْمَرِيرِ، وَغَلَبَةِ الْفَرَحِ، وَاسْتِبْدَادِ الْمَرَحِ؛ لَا يَحْسُنُ الْحِوَارُ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ تُخْرِجُ اللِّسَانَ وَالسَّمْعَ وَالْعَقْلَ عَنِ الصَّوَابِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا تَعْتَدِلُ الْأَحْوَالُ يَحْسُنُ الْحِوَارُ وَالْخِطَابُ.
وَانْظُرُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- كَيْفَ نَصَحَ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْقَاضِيَ بِتَرْكِ الْحُكْمِ فِي وَقْتِ شِدَّةِ غَضَبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُصِيبُ الْحَقَّ فِي قَضَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ الْحَرِجَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ، وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ: بِأَنْ لَا تَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
قَالَ الْعُلَمَاءُ: "وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُلُّ مَا غَيَّرَ طَبْعَ الْإِنْسَانِ؛ مِنْ جُوعٍ، أَوْ مَرَضٍ، وَحُزْنٍ وَنَحْوِهَا، لَا يَقْضِي حَتَّى يَسْكُنَ جَأْشُهُ، وَتَزُولَ هَذِهِ الْأَعْرَاضُ عَنْهُ".
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: هُنَاكَ طُرُقٌ لِلْحِوَارِ النَّاجِحِ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ، يَنْبَغِي سُلُوكُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يُثْمِرَ الْحِوَارُ وَيَصِلَ إِلَى مَرْحَلَةِ الْإِقْنَاعِ؛ فَمِنْهَا: إِظْهَارُ الِاحْتِرَامِ وَالتَّقْدِيرِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ هِيَ الْمِفْتَاحُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَفْتَحُ قَلْبَ الْوَلَدِ أَوِ الطَّالِبِ الْمُرَاهِقِ عِنْدَ حِوَارِهِ، وَمُحَاوَلَةِ إِقْنَاعِهِ.
وَمِنَ الِاحْتِرَامِ: الْإِصْغَاءُ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَحُسْنُ نِدَائِهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِمَنْزِلَتِهِ وَمَقَامِهِ.
وَمِنْ طُرُقِ الْحِوَارِ النَّاجِحِ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ: أَنْ تُشْعِرَ الْمُرَاهِقَ بِأَنَّكَ تُحِسُّ بِهِ، وَتُقَدِّرُ لَهُ حَالَهُ وَحُسْنَ مَقَاصِدِهِ، وَتَتَفَهَّمُ وَضْعَهُ، وَتُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَى صُنْعِ الْخَيْرِ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمِفْتَاحُ الثَّانِي الَّذِي يَفْتَحُ الْقُلُوبَ، وَيُعَبِّدُ لِلنَّصِيحَةِ الطُّرُقَ وَالدُّرُوبَ.
وَمِنْ طُرُقِ الْحِوَارِ النَّاجِحِ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سَتْرٍ وَخَفَاءٍ، إِنْ كَانَ فِي الْإِعْلَانِ بِالْحِوَارِ فَضْحٌ وَجَفَاءٌ؛ فَقَدْ يَكُونُ الْحِوَارُ لِلْمُرَاهِقِ لِعَادَاتٍ سَيِّئَةٍ يَتْرُكُهَا، وَمَعَايِبَ يَخْشَى مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ بِهَا، فَلَوْ كَانَ الْحِوَارُ فِي الْعَلَانِيَةِ لَمَا أَثْمَرَ وَلَا أَثَّرَ، فَالسَّتْرَ السَّتْرَ فِي الْحِوَارِ وَالْإِقْنَاعِ إِذَا كَانَ الْمُرَاهِقُ يَكْرَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ النَّاسُ.
قَالَ سُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ: "مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَهِيَ نَصِيحَةٌ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَإِنَّمَا فَضَحَهُ"، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ: "إِنَّ صِلَةَ بْنَ أَشْيَمَ، وَأَصْحَابَهُ أَبْصَرُوا رَجُلًا قَدْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ، فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَقَالَ صِلَةُ: دَعُونِي أَكْفِيكُمُوهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: فَمَا ذَاكَ يَا عَمِّ؟ قَالَ: تَرْفَعُ إِزَارَكَ، قَالَ: نَعَمْ، وَنِعْمَةُ عَيْنٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَذَا كَانَ مِثْلَ لَوْ أَخَذْتُمُوهُ بِشِدَّةٍ؟، قَالَ: لَا أَفْعَلُ، وَفَعَلَ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي *** وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجِمَاعَةْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** مِنَ التَّوْبِيخِ لَا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي *** فَلَا تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَةْ
فَأَحْسِنُوا الْحِوَارَ -أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْمُرَبُّونَ- مَعَ الْمُرَاهِقِينَ؛ وَاسْتَثْمِرُوهُ أَحْسَنَ اسْتِثْمَارٍ، وَاسْلُكُوا أَحْسَنَ الطُّرُقِ لِلْحِوَارِ، وَأَبْشِرُوا بِذَلِكَ بِصَلَاحِ الْمُرَاهِقِينَ مِنْ أَوْلَادِكُمْ وَطُلَّابِكُمْ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَنَا، وَأَنْ يُصْلِحَ بِنَا.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْحِوَارَ النَّاجِحَ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ لَهُ ثَمَرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنَافِعُ كَبِيرَةٌ، وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ يَحُثُّ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ النَّافِعِ فِي تَرْبِيَةِ الْمُرَاهِقِينَ؛ فَمِنْ تِلْكَ الثَّمَرَاتِ الْيَانِعَةِ، وَالْآثَارِ النَّافِعَةِ:
أَنَّهُ يُسَاعِدُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْأَخْطَاءِ، وَيُعِينُ عَلَى تَرْكِهَا، وَيُزِيلُ سُوءَ الْفَهْمِ عَنْ أُمُورٍ تَبَيَّنَ لِلْمُرَاهِقِ غَلَطُهَا، وَيُصَحِّحُ أَفْكَارًا مُنْحَرِفَةً ظَلَّ الْمُرَاهِقُ زَمَنًا يَعْتَنِقُهَا؛ فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَخْرُجُ لِيُحَاوِرَ الْخَوَارِجَ الَّذِينَ انْحَرَفُوا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَخَرَجُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالسُّيُوفِ بِسَبَبِ الْفَهْمِ الْعَلِيلِ، فَحَاوَرَهُمْ -وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ- فَرَجَعَ ثُلُثُهُمْ، وَانْصَرَفَ ثُلُثُهُمْ، وَقُتِلَ سَائِرُهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي سِيَرِهِ.
وَمِنْ آثَارِ الْحِوَارِ النَّاجِحِ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ: أَنَّهُ يُقَوِّي الْأَوَاصِرَ وَالْعَلَاقَاتِ، وَيَدْفِنُ التَّدَابُرَ وَالْخِلَافَاتِ، بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَبَيْنَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَبَيْنَ الطُّلَّابِ وَمُعَلِّمِيهِمْ؛ فَكَمْ مِنْ أَوَاصِرَ قَوِيَتْ، وَمَحَبَّةٍ تَعَمَّقَتْ بَعْدَ جَلْسَةِ حِوَارٍ نَاجِحَةٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: هُنَالِكَ مَحَاذِيرُ يَنْبَغِي تَجَنُّبُهَا فِي حِوَارِ الْمُرَاهِقِينَ، وَأَخْطَاءٌ يَجِبُ الْبُعْدُ عَنْهَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ؛ فَمِنْهَا: السُّخْرِيَةُ وَالِاحْتِقَارُ لِلْمُرَاهِقِ عِنْدَ مُحَاوَرَتِهِ، وَإِظْهَارُ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ حِينَ مُرَاجَعَتِهِ، وَهَذَا الْمَحْذُورُ يُكَدِّرُ النُّفُوسَ، وَيُبَاعِدُ بَيْنَ الْقُلُوبِ، وَهُوَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ)[الْحُجُرَاتِ:11].
وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنْ مَحَاذِيرِ الْحِوَارِ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ: الْأَخْذُ بِمَبْدَأِ: إِمَّا أَنْ تَقْتَنِعَ وَإِمَّا أَنْ أُعَاقِبَكَ! فَهُنَاكَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ مَنْ يُحَاوِرُ الْمُرَاهِقَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْبَلَ كُلَّ مَا يُحَاوِرُهُ بِهِ وَإِلَّا عَاقَبَهُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَقَدْ يَكُونُ لَدَى الْمُرَاهِقِ جُزْءٌ مِنَ الصَّوَابِ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى وَقْتٍ حَتَّى يَقْتَنِعَ بِالْحَقِّ.
عِبَادَ اللَّهِ: اسْلُكُوا سَبِيلَ الْحِوَارِ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَقُولُوا: لَا وَقْتَ لَدَيْنَا لِحِوَارِهِمْ، أَوْ نَخْجَلُ مِنْ مُصَارَحَتِهِمْ بِبَعْضِ أَخْطَائِهِمْ، وَاخْتَارُوا أَحْسَنَ الطُّرُقِ فِي مُرَاجَعَتِهِمْ، وَأَفْضَلَ الْأَسَالِيبِ لِإِقْنَاعِهِمْ، وَسَتَرَوْنَ لِحِوَارِكُمْ مَعَهُمْ مَنَافِعَ جَمَّةً، وَمَصَالِحَ مُهِمَّةً، وَاحْذَرُوا -رَعَاكُمُ اللَّهُ- مِنْ مَحَاذِيرِ الْحِوَارِ؛ كَالِاسْتِبْدَادِ وَالِاحْتِقَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْطَاءِ الَّتِي تَجْعَلُ الْحِوَارَ مَعَهُمْ بَابَ عَنَاءٍ وَشَقَاءٍ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَرْجُوُّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بَابَ صَلَاحٍ وَشِفَاءٍ.
وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِحُسْنِ التَّرْبِيَةِ، وَأَصْلَحَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمُ التَّلَامِيذَ وَالذُّرِّيَّةَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات