السياسة النبوية في اكتشاف القدرات وتنمية المهارات

مراد كرامة سعيد باخريصة

2025-08-20 - 1447/02/26
التصنيفات الفرعية: بناء المجتمع
عناصر الخطبة
1/من هدي النبي توظيف الكفاءات والاعتناء بالموهوبين 2/من مظاهر اهتمام النبي بالموهوبين 3/السياسة النبوية في تنمية المهارات 4/المهارة تحتاج إلى تنمية ورعاية 5/كثير من محاضننا تقتل الإبداع

اقتباس

في بيوتنا: كم من طفلٍ ذكيٍ كسرناه بكلمة: "أنت لا تفهم"!، وكم من بنتٍ مبدعةٍ وأدنا طموحها؛ لأننا نريدها نسخة مكررة من غيرها!. وفي مدارسنا: كم من طالب ضاع لأنه لم يُتَح له إلا طريق واحد!، وكم من معلم أهمل مواهب تلاميذه لأن المنهج لا يسمح...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الحكيم الخبير، الذي خلق الإنسان وعلّمه البيان، وأودع في كل نفسٍ طاقاتٍ كامنة، ومواهب متعددة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي ربّى الرجال، وأعدّ الأجيال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

 

فيا أيها الإخوة المسلمون: أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله -عزَّ وجلَّ-؛ فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].

 

عباد الله: حديثنا اليوم عن أمرٍ عظيم، وعن سياسةٍ نبويةٍ راشدة، نحتاج إليها في بيوتنا ومجتمعاتنا ومدارسنا ومؤسساتنا، إنها السياسة النبوية في اكتشاف القدرات وتنمية المهارات.

 

لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- قائدًا ومربيًا، يعرف كيف يكتشف الطاقات في الناس؟ وكيف يضع كل إنسان في مكانه المناسب؟ لم يكن يعتمد المحسوبية ولا القرابة، بل كان يقيم الرجال على أساس الكفاءة والإخلاص، وهذه السياسة -يا عباد الله- من أعظم ما تحتاجه أمتنا اليوم.

 

السياسة النبوية كما بيّنها العلماء، ليست فقط إدارة شؤون الناس، بل هي تدبير الأمور بما فيه صلاح الخلق في دينهم ودنياهم، بما يوافق شرع الله، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- مارس السياسة في أسمى صورها، فكان يوظف الكفاءات، ويعتني بالمواهب، ويكتشف القدرات منذ بداياتها، وينميها بالتعليم والتدريب والتشجيع.

 

ولذلك، لما جاء عمرو بن العاص وأسلم، لم يمضِ وقتٌ طويل حتى ولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- قيادة جيش فيه من هو أقدم منه إسلامًا؛ لأن فيه من المهارات القيادية ما يؤهله لذلك، رغم أنه أسلم في السنة الثامنة الهجرية قبل الفتح، إلا أنه أصبح موضع ثقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وموضع اعتماده، وكان إقباله على الإسلام نتيجة لتفكيره العميق، واقتناعه الكامل بالإسلام، فأسلم الناس، وآمن عمرو، فجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد قادة سرية ذات السلاسل، ونجح في قيادته نجاحًا باهرًا، وتولى قيادة سرية هـدم سواع -صنم هـذيل-، فأدى واجبه، وهدم الصنم.

 

ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- المواهب العسكرية والقدرات القتالية الهائلة عند خالد بن الوليد فقال له: "نِعْمَ عبدُ اللهِ وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله، سلّه الله على الكفار والمنافقين".

 

ورأى زيد بن ثابت، فلاحظ نباهته وسرعة حفظه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بتعلم السريانية، فأتقنها في أيام.

 

ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عباس نابغة من النوابغ في الفهم والعلم والحفظ، فدعا له فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، فصار حبر هذه الأمة.

 

هكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكتشف المواهب والقدرات، يكتشفها بالملاحظة الدقيقة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- ينظر في تصرفات الصحابة، ويميز أصحاب الذكاء والحكمة والشجاعة فيؤهلهم للقيادة.

 

يكتشف المواهب والقدرات بالأسئلة المحفزة، فكان -صلى الله عليه وسلم- يسألهم ليفتح مداركهم وعقولهم، مثلما سأل معاذًا فقال له: "أتدري ما حق الله على العباد؟"، ويسأل الصحابة فيقول لهم: "أتدرون من المفلس؟"، وقال لهم ذات ليلة: "هل تَدْرُون ماذا قال ربكم البارحة؟".

 

وكان -صلى الله عليه وسلم- يكتشف المواهب والقدرات أحيانًا بالمواقف العملية، فيجعلهم يعيشون المواقف، ويتعلمون من الواقع، مثلما جعل أسامة بن زيد قائدًا لجيش عظيم.

 

كما كان -عليه الصلاة والسلام- يكتشف مواهبهم بالتكليف التدريجي، فيكلف الشاب بما يناسبه، ثم يترقى معه خطوة خطوة؛ حتى يترقى ويتأهل.

 

عباد الله: إنَّ في كل إنسان منا طاقة، ولكل واحدٍ منا موهبة، ولكن من يكتشفها؟ ومن يوجهها؟ كثير من الناس عاشوا وماتوا دون أن يعرفوا أنهم أصحاب عقول فذة، أو قلوب مبدعة، أو ألسنة واعظة، أو أيدٍ عاملة مبدعة!.

 

نحن في زمن تتصارع فيه الأمم على استثمار العقول، والشركات الكبرى لا تسأل عن الشهادات، بل تبحث عن المهارات، ونحن للأسف ما زلنا نحصر التفوق في الأرقام المدرسية فقط!، لو اقتدينا بالسياسة النبوية لربينا جيلاً يعرف نفسه، ويثق بإمكاناته، ويتوجه لما يناسبه.

 

عباد الله: ومن جوانب السياسة النبوية في تنمية المهارات: زرع الإيمان والنية الصالحة في النفوس، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يهتم فقط بالمهارة المجردة، بل كان يربطها بالإيمان، فإذا أردت أن تكون خطيبًا، أو معلمًا، أو طبيبًا، فاجعل نيتك في خدمة الدين وخدمة الأمة نية صالحة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات".

 

وكذلك الدعاء والتفاؤل والتحفيز، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لابن عباس، وأثنى على زيد، ورفع معنويات عمرو، وقال لأصحابه: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".

 

فهل نفعل ذلك اليوم مع أولادنا؟ هل ندعو لهم بالتوفيق أم نكسر خواطرهم؟ فكم من شاب فشل؛ لأنه لم يجد من يشجعه!.

 

ومن جوانب السياسة النبوية في تنمية المهارات: تبادل الخبرات ونقل المعرفة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يُقرن الصحابة بعضهم ببعض؛ فيتعلّمون من بعضهم، كعبد الله بن عباس مع زيد بن ثابت، ومع كبار الصحابة، فينمو علمهم وتُصقل مواهبهم.

 

واليوم -إخوة الإيمان- نحن بحاجة إلى بناء منظومة تدريبية واقعية، في البيوت، في المساجد، في الجمعيات، نكتشف فيها المهارات، وندرب أبناءنا وبناتنا على العلوم والقيادة والإبداع.

 

ولو طبقنا هذه السياسة النبوية في واقعنا، لرأينا في كل مسجد نابغًا، وفي كل حارة مبدعًا، وفي كل بيت طاقة موجهة، لكننا نحتاج إلى بصيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإلى قلبه الرحيم، وإلى حكمته في وضع كل إنسان في مكانه؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].

 

أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأعطاه العقل ليفكر، واللسان ليعبِّر، واليد ليعمل، والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين، ومعلمًا للبشرية أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:

 

عباد الله: إن من أعظم ما أنجزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلال بعثته، أنه لم يكتفِ بدعوة الناس إلى التوحيد، بل ربّى جيلاً كان كل فرد فيه مشروع أمة، اكتشف فيهم الطاقات، ووجّههم نحو خدمة الدين والأمة، حتى صاروا قادة في كل مجال.

 

فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- شخصية متزنة، رزينة، فجعل منه مستشارًا له ووزيرًا، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذو قوة وصرامة، فكان له أعظم الأثر في الإدارة والعدل، وعثمان بن عفان -رضي الله عنه- رجل المال والحياء، فجعل منه دعامة للاقتصاد الإسلامي، وعلي بن أبي طالب ذو الذكاء والحكمة، فكان من أعمدة القضاء والعلم، وخالد بن الوليد، رجل حسم وحرب، فجعل منه سيفًا من سيوف الله، وزيد بن ثابت ذكي سريع التعلم، فصار مترجم النبي وكاتب الوحي.

 

كل واحد من هؤلاء الصحابة، لم يكن يبرز لو لم يكن هناك مَن يكتشفه ويوجهه، وهذا هو الدور النبوي الذي نحتاج إليه اليوم.

 

إننا في زمن تموت فيه المواهب في مهدها، ويُتهم المبدع بالغرور، ويُقصى المجتهد، وتُهمّش العقول، فشبابنا اليوم يعيشون في ضياع، لا لأنهم أغبياء؛ بل لأنهم لم يجدوا من يكتشفهم ويوجههم.

 

يا أمة الإسلام: إن المهارة لا تُولد مكتملة، ولكنها تُنمى، وإن القدرات لا تُستخدم تلقائيًا، ولكنها تحتاج إلى عين بصيرة، ومُرشدٍ ناصح، ومُربٍّ حكيم، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل مع أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-.

 

لقد جاءت السيرة النبوية لتكون منهجًا متكاملاً في صناعة الإنسان، وإعداد القادة، وبناء الأمة، لا مجرد سردٍ تاريخي أو قصص للتسلية، وإذا أردنا النهضة، فعلينا أن نعيد اكتشاف الإنسان، وأن نبحث في شبابنا عن مخترع، لا عن حافظ فقط، ولنُقدّر الصانع كما نقدّر القارئ، ونُعلي من شأن المهارات كما نعلي من الشهادات.

 

في بيوتنا: كم من طفلٍ ذكيٍ كسرناه بكلمة: "أنت لا تفهم"!، وكم من بنتٍ مبدعةٍ وأدنا طموحها؛ لأننا نريدها نسخة مكررة من غيرها!.

 

وفي مدارسنا: كم من طالب ضاع لأنه لم يُتَح له إلا طريق واحد!، وكم من معلم أهمل مواهب تلاميذه لأن المنهج لا يسمح!.

 

وكم من شبابنا اليوم يُهمشون، وتُقتل مواهبهم في البيوت والمدارس، وكم من أطفالنا نحكم عليهم بالفشل؛ لأنهم لا يتقنون حفظ الدروس، ولا نلتفت إلى ما عندهم من مهارات يدوية أو فنية أو قيادية عظيمة!.

 

نحتاج اليوم أن نُحيي المنهج النبوي في اكتشاف الطاقات، وأن نفتح المجال لكل موهبة أن تُعبّر عن نفسها، وأن نبني مؤسسات تعليمية لا تقتل الإبداع وتغتال العقول، ومساجد تُرشد وتُوجه، ومجالس أسرية تُنصت لأحلام أولادها لا تسخر منها.

 

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن عنده معامل ولا جامعات، لكن كانت عنده البصيرة والرحمة، والحكمة في تنمية المهارات، وبناء القدرات، وتنشئة القيادات، فأنشأ -صلى الله عليه وسلم- جيلًا فريدًا، أخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن دروب الغواية إلى سبل الهداية.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life