عناصر الخطبة
1/طبيعة مرحلة المراهقة بين واقع المتربي ووسائل المربي 2/الحاجات النفسية والجسدية والاجتماعية والجنسية للمراهقين 3/ثمار تلبية احتياجات النفسية والجسدية والاجتماعية والجنسية 4/أضرار عدم تلبية احتياجات النفسية والجسدية والاجتماعية والجنسيةاقتباس
لَا يَعْنِي أَنْ نُلَبِّيَ حَاجَاتِ الشَّبَابِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ أَنْ نَتْرُكَ لَهُمُ الْحَبْلَ عَلَى الْغَارِبِ لِيَفْعَلُوا مَا يُرِيدُونَ؛ وَإِنَّمَا نُدْرِكُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ إِلَى مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ، وَأَنَّ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ حَاجَاتِهَا الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي تَسْتَدْعِيهَا الْفِطْرَةُ وَالطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
مَعْشَرَ الْمُرَبِّينَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَمُرُّ بِمَرَاحِلَ مُخْتَلِفَةٍ فِي حَيَاتِهِ، وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ قَالَ: (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)[الرُّومِ: 54]؛ وَكُلُّ مَرْحَلَةٍ لَهَا مُتَطَلَّبَاتُهَا الَّتِي تُلَبِّي التَّغَيُّرَاتِ الْحَاصِلَةَ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنَ الْعُمْرِ، وَهُنَاكَ مَرْحَلَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ حَيَاتِنَا؛ هِيَ مَرْحَلَةُ الْمُرَاهَقَةِ وَبِدَايَةِ الشَّبَابِ، مَرْحَلَةٌ تَحْدُثُ فِيهَا تَغْيِيرَاتٌ كَثِيرَةٌ جَسَدِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ وَفِكْرِيَّةٌ، وَعَلَى الْمُرَبِّينَ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ فِقْهُ مُتَطَلَّبَاتِهَا؛ لِيُحَسِنُوا التَّعَامُلَ مَعَ حَاجَاتِ الْمُرَاهِقِينَ وَيَسْعَوْا إِلَى تَلْبِيَتِهَا، وَتَتَنَوَّعُ هَذِهِ الْحَاجَاتُ وَفْقَ التَّغْيِيرَاتِ الْحَاصِلَةِ لِلشَّبَابِ فِي هَذِهِ السِّنِّ؛ فَلَهُمْ حَاجَاتٌ نَفْسِيَّةٌ وَجَسَدِيَّةٌ وَاجْتِمَاعِيَّةٌ وَجِنْسِيَّةٌ.
وَلَا يَعْنِي أَنْ نُلَبِّيَ حَاجَاتِ الشَّبَابِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ أَنْ نَتْرُكَ لَهُمُ الْحَبْلَ عَلَى الْغَارِبِ لِيَفْعَلُوا مَا يُرِيدُونَ؛ وَإِنَّمَا نُدْرِكُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ إِلَى مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ، وَأَنَّ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ حَاجَاتِهَا الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي تَسْتَدْعِيهَا الْفِطْرَةُ وَالطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ؛ فَنَسْعَى إِلَى تَوْجِيهِ تِلْكَ الْمُتَطَلَّبَاتِ تَوْجِيهًا صَحِيحًا وَفْقَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّرْعُ، وَإِلَّا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ انْحِرَافَاتِ الشَّبَابِ سَبَبُهُ جَهْلُ الْمُرَبِّينَ بِمُتَطَلَّبَاتِ الْمَرْحَلَةِ الْعُمْرِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُونَهَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ، وَعَدَمُ التَّوْجِيهِ الصَّحِيحِ لَهُمْ إِلَى مَا يُلَبِّي حَاجَاتِهِمْ.
أَيُّهَا الْكِرَامُ: تَتَنَوَّعُ حَاجَاتُ الشَّبَابِ فِي سِنِّ الْمُرَاهَقَةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
الْحَاجَاتُ النَّفْسِيَّةُ: فَيَنْبَغِي لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ أَوْلَادَهُمْ فِي سِنِّ الْمُرَاهَقَةِ لَيْسُوا كَمَا هُمْ فِي سِنِّ الطُّفُولَةِ، وَالنِّدَاءُ النَّفْسِيُّ الدَّاخِلِيُّ لِلْمُرَاهِقِ: لَقَدْ أَصْبَحْتُ رَجُلًا!، لِذَلِكَ فِي سِنِّ الْمُرَاهَقَةِ يَحْتَاجُ الشَّابُّ إِلَى تَقْدِيرِ شَخْصِهِ، وَجَبْرِ خَاطِرِهِ، وَمُرَاعَاةِ مَشَاعِرِهِ، وَتَأَمَّلُوا فِي قِصَّةِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَقْبَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ قَالَ: "فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي... قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ".
وَمِنْ حَاجَاتِ الْمُرَاهِقِينَ النَّفْسِيَّةِ: الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ وَمَدْحُهُمْ؛ فَالْإِنْسَانُ -بِطَبْعِهِ- يُحِبُّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ، وَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُثْنِي عَلَى شَبَابِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ سَمِعَ قِرَاءَةَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، وَمَدَحَ مُعَاذًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: "أَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَالثَّنَاءُ مِنَ الْمُحَفِّزَاتِ الْعَظِيمَةِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالِاسْتِمْرَارِ فِيهِ وَالِانْدِفَاعِ إِلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ"، قَالَ سَالِمٌ: "فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، أَرَأَيْتُمْ كَيْفَ أَثَّرَتْ كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؟!.
وَمِنْ حَاجَاتِ الْمُرَاهِقِينَ النَّفْسِيَّةِ: مُعَالَجَةُ أَخْطَائِهِمْ بِلِينِ قَوْلٍ وَحُسْنِ أُسْلُوبٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا هُوَ هَدْيَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مُعَالَجَةِ أَخْطَاءِ الشَّبَابِ عُمُومًا، فَلَمْ يَكُنْ فَظًّا غَلِيظًا، بَلْ كَانَ مُعَلِّمًا رَحِيمًا، وَمُؤَدِّبًا حَكِيمًا، قَالَ لِخُرَيْمٍ الْأَسَدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ يَا خُرَيْمُ، لَوْلَا خَلَّتَانِ فِيكَ"، قُلْتُ: وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِسْبَالُكَ إِزَارُكَ، وَإِرْخَاؤُكَ شَعْرَكَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)، وَيَصِفُ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ مُعَالَجَةَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِخَطَئِهِ حِينَ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ: "مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ هُوَ أَرْفَقُ مِنْهُ تَعْلِيمًا، فَمَا نَهَرَنِي وَلَا كَهَرَنِي وَلَا شَتَمَنِي"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنْ حَاجَاتِ الْمُرَاهِقِينَ النَّفْسِيَّةِ: مُنَادَاتُهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ، وَوَصْفُهُمْ بِأَفْضَلِ الْأَلْقَابِ، وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ -تَعَالَى- عَنِ السُّخْرِيَةِ مِنَ الْآخَرِينَ وَرَمْيِهِمْ بِالْأَلْقَابِ الْقَبِيحَةِ: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)[الْحُجُرَاتِ: 11]، فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ تَتْرُكُ أَثَرًا حَسَنًا، وَالْكَلِمَةُ الْقَبِيحَةُ تَتْرُكُ أَثَرًا سَيِّئًا فِي النَّفْسِ.
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: وَمِنَ الْحَاجَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي تَلْبِيَتُهَا لِلْمُرَاهِقِ حَاجَاتُهُ الْجَسَدِيَّةُ، فَفِي مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ يَهْتَمُّ الشَّابُّ بِقُوَّتِهِ وَجَسَدِهِ، وَيَتَعَلَّقُ كَثِيرٌ مِنَ الشَّبَابِ بِمُمَارَسَةِ الرِّيَاضَةِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَرْحَلَةَ الْمُرَاهَقَةِ هِيَ مَرْحَلَةُ الْقُوَّةِ، فَيَنْبَغِي تَرْشِيدُ هَذِهِ الْحَاجَةِ وَتَوْجِيهُهَا التَّوْجِيهَ الصَّحِيحَ، وَفِي الْحَدِيثِ: "فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الرِّيَاضَةِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ)[يُوسُفَ: 17]، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يُمَارِسُونَ رِيَاضَةَ السِّبَاقِ، وَكَانَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَإِنَّ تَوَجُّهَ الْمُرَاهِقِ نَحْوَ الرِّيَاضَةِ وَتَمْضِيَةِ بَعْضِ الْوَقْتِ فِي الِاهْتِمَامِ بِقُوَّتِهِ الْبَدَنِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الْفَرَاغِ الْقَاتِلِ، أَوْ إِشْغَالِهِ وَقْتَهُ بِمَا يَضُرُّ، بِشَرْطِ أَلَّا تَكُونَ هَذِهِ الْحَاجَةُ غَايَةً فِي ذَاتِهَا؛ بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ لِتَقْوِيَةِ الْجِسْمِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَأَلَّا تَشْغَلَهُ عَنِ الطَّاعَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ، أَوْ أَنْ تَصِيرَ سَبَبًا لِلنِّزَاعِ وَالْخِصَامِ بَيْنَ الشَّبَابِ، وَتُؤَدِّيَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَقَدْ أَرْشَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِلَى بَعْضِ الرِّيَاضَاتِ النَّافِعَةِ لِلْمُسْلِمِ فَقَالَ: "عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ السِّبَاحَةَ، وَالرَّمْيَ، وَالْفُرُوسِيَّةَ".
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: وَمِنَ الْحَاجَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُرَاهِقُ: الْحَاجَاتُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، فَالْإِنْسَانُ -بِطَبْعِهِ- اجْتِمَاعِيٌّ يُحِبُّ الْخُلْطَةَ وَالْمُؤَانَسَةَ، وَيَنْفِرُ مِنَ الْوَحْدَةِ وَالِانْعِزَالِ؛ وَلِذَلِكَ يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إِلَى إِشْبَاعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ بِاتِّخَاذِ الْأَصْدِقَاءِ وَالِانْدِمَاجِ فِي مُجْتَمَعَاتِ النَّاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ خُطُورَةُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْمُرَاهِقِينَ؛ لِكَثْرَةِ أَسْبَابِ الْفَسَادِ وَدَوَاعِيهِ بِسَبَبِ مُخَالَطَةِ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ؛ فَالْمَرْءُ يَتَأَثَّرُ -وَلَابُدَّ- بِمَنْ يُحِيطُونَ بِهِ، وَخَاصَّةً مَنْ هُمْ فِي سِنِّهِ، وَيَقْضِي أَكْثَرَ الْأَوْقَاتِ مَعَهُمْ؛ وَلِهَذَا يَسْتَحِيلُ فَرْضُ الْعُزْلَةِ عَلَى الشَّابِّ وَمَنْعُهُ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِمَنْ هُمْ فِي سِنِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُخَالِفُ طَبْعَ الْإِنْسَانِ وَجِبِلَّتَهُ، فَالْحِمْلُ عَلَى الْمُرَبِّينَ كَبِيرٌ فِي تَلْبِيَةِ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَدَى الْمُرَاهِقِ، وَذَلِكَ بِأَنْ نُوَجِّهَهُ إِلَى اتِّخَاذِ الْأَصْدِقَاءِ الصَّالِحِينَ النَّافِعِينَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
إِنَّ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ سَيَكُونُونَ فِي رَاحَةٍ تَامَّةٍ حِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ابْنَهُمْ -وَهُوَ فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِهِ- يُصَاحِبُ شَبَابًا مَعْرُوفِينَ بِصَلَاحِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَسَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ لَهُمْ عَلَى حُسْنِ تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْعُمْرِيَّةِ الْخَطِيرَةِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ انْحِرَافِ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ فَـ"الصَّاحِبُ سَاحِبٌ"، وَ"الْمُجَالِسُ مُجَانِسٌ"، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ كَالْأَمْرَاضِ تَنْتَقِلُ بِالْعَدْوَى، وَعَدْوَاهَا سَرِيعَةٌ جِدًّا.
وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ اللَّئِيمِ فَإِنَّهُ *** يُعْدِي كَمَا يَعْدِي السَّلِيمَ الْأَجْرَبُ
وَمِنَ الْحَاجَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِلْمُرَاهِقِينَ: أَنْ نُشَارِكَهُمْ فِي أَفْرَاحِهِمْ وَأَتْرَاحِهِمْ، وَنَهْتَمَّ بِأَحْوَالِهِمْ وَنُتَابِعَ أَخْبَارَهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، كَانَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عُصْفُورٌ يَلْعَبُ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ: "نُغَرٌ"، فَمَاتَ فَحَزِنَ عَلَيْهِ الصَّبِيُّ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَلِّيهِ وَقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَاسَاهُ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ، فَمَا أَعْظَمَ هَذِهِ الْمُوَاسَاةَ!.
وَمِنَ الْحَاجَاتِ الْمُهِمَّةِ فِي مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ: الْحَاجَةُ الْجِنْسِيَّةُ، فَالْجِنْسُ غَرِيزَةٌ جُبِلَتْ عَلَيْهَا كُلُّ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ، وَفِي مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ تَبْدَأُ هَذِهِ الْغَرِيزَةُ بِالظُّهُورِ، وَتَشْتَدُّ وَتَتَأَجَّجُ نِيرَانُهَا، وَيَبْدَأُ مَعَهَا فُضُولُ الشَّابِّ بِالِاكْتِشَافِ لِهَذَا التَّحَوُّلِ الْجَدِيدِ، وَيَسْعَى الشَّابُّ إِلَى تَفْرِيغِهَا؛ وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْمُرَبِّينَ، بَلْ لِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لِلشَّبَابِ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ إِلَى وُجْهَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ الصَّحِيحَةِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرًا لِهَؤُلَاءِ الشَّبَابِ وَلِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ بِتَشْرِيعَاتِهِ الشَّامِلَةِ، وَنَظْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، قَدْ أَوْضَحَ الْعِلَاجَ الصَّحِيحَ لِهَذِهِ الشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، فَكَانَ النِّدَاءُ النَّبَوِيُّ لِلشَّبَابِ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَعَلَى الْمُجْتَمَعِ أَنْ يُيَسِّرَ سُبُلَ الزَّوَاجِ لِلشَّبَابِ، وَأَنْ يَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمُ الْفِطْرِيَّةِ بِالسُّبُلِ الْمَشْرُوعَةِ، دُونَ تَعْقِيدَاتٍ وَوَضْعِ قُيُودٍ تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَلْبِيَةِ هَذِهِ الْحَاجَةِ الْغَرِيزِيَّةِ.
كَمَا يَنْبَغِي أَنْ نَغْرِسَ فِي قُلُوبِ شَبَابِنَا مَحَبَّةَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَمُرَاقَبَتَهُ؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعِينُ الشَّبَابَ عَلَى الْبُعْدِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يُوسُفَ: 23].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ فِي تَلْبِيَةِ حَاجَاتِ الشَّبَابِ النَّفْسِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ آثَارًا طَيِّبَةً وَثِمَارًا يَانِعَةً؛ فَمِنْ ذَلِكَ: غَرْسُ الْفَضِيلَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَتَذْلِيلُ الْخَيْرِ لَهُمْ وَتَيْسِيرُهُ، إِبْعَادُهُمْ عَنْ سُبُلِ الْغِوَايَةِ وَالْفَسَادِ، فَإِذَا صَلُحَ الشَّبَابُ صَلُحَتِ الْأُسَرُ وَالْمُجْتَمَعَاتُ، وَإِعَانَتُهُمْ عَلَى تَلْبِيَةِ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ حَاجَاتٍ سَدٌّ لَهُمْ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ وَحَامِلِي مَشَاعِلِ الْخَيْرِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِنَ الشَّبَابِ، فَهُمْ أَصْحَابُ الْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ وَالْإِقْدَامِ، وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَبِنَاءِ دَوْلَتِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ.
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: إِذَا كَانَ فِي تَلْبِيَةِ حَاجَاتِ الشَّبَابِ ثِمَارٌ وَمَنَافِعُ تَعُودُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُسَرِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ بِالنَّفْعِ، فَإِنَّ التَّقْصِيرَ فِي ذَلِكَ لَهُ آثَارٌ سَيِّئَةٌ؛ مِنْ ذَلِكَ: تَغْذِيَةُ رُوحِ التَّمَرُّدِ فِي نُفُوسِهِمْ، فَتَرَاهُمْ أَكْثَرَ مُعَارَضَةً وَمُخَالَفَةً لِتَوْجِيهَاتِ الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ، يَمِيلُونَ إِلَى إِثَارَةِ الْمَشَاكِلِ وَالصِّدَامِ مَعَ الْآخَرِينَ.
وَمِنْهَا: مُصَاحَبَةُ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ يُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْبَاطِلَ وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى طُرُقِهِ، وَحِينَهَا سَيَتَّجِهُونَ إِلَى تَلْبِيَةِ حَاجَاتِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَرَامِ.
وَمِنْهَا: اسْتِيلَاءُ الْفَرَاغِ الْقَاتِلِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَاسْتِحْبَابُ الْعُزْلَةِ عَنِ الْأُسْرَةِ، وَانْكِفَاؤُهُمْ عَلَى الْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ أَوْقَاتٍ طَوِيلَةً، مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَضْرَارٍ مُخْتَلِفَةٍ.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنَّ فِقْهَ مَرْحَلَةِ الْمُرَاهَقَةِ وَالتَّغَيُّرَاتِ الْحَاصِلَةِ فِيهَا يُسَهِّلُ عَلَى الْمُرَبِّي تَوْجِيهَ الشَّبَابِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَاللَّهُ هُوَ الْمُعِينُ، وَالْهَادِي إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات