اغتنم خمسا قبل خمس

د. منصور الصقعوب

2025-08-01 - 1447/02/07 2025-08-18 - 1447/02/24
عناصر الخطبة
1/ من عظيم الوصايا النبوية 2/أهمية مرحلة الشباب 3/المحافظ على الصحة واغتنامها 4/اغتنام نعمة المال 5/اغتنام الأعمار في النافع المفيد 6/أسئلة ستمر بك فاستعد لها.

اقتباس

أنت اليوم حيٌّ قادر على أن تتقرب إلى ربك بصالح العمل، وسيأتي يوم تغادر هذه الدنيا وتنتهي مرحلة العمل، وتبدأ آخرتك، وحينها يعرف المرء قدر حياته وأنفاسِه. إن ركعة في ظلمة الله وتسبيحة في صبح أو مساء، وطاعةً لربك لهي خير من الدنيا....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

يتعاقبُ الزمان ويُقلِّبُ الله الليل والنهار، وتمرُّ الأيام سراعاً والسنينُ تباعاً، يَكبُر المرء وتتخطى به السنين وهو ما زال في الأماني غارقٌ وفي الأمل واقع.

 

سلوا ابن الأربعين كيف رأى سرعة المرور، سلوا ابن الستين والسبعين كيف كان يُمنِّي نفسه بطول الأمل فطال العمر ولم يُحقِّق ما أمّل.

 

عُمرٌ يمضي ولذاتٌ تنقضي، وشمسٌ تشرق وتغرب، تُقرِّبُنا من الآخرة وتباعدُنا من الدنيا، كذا الدنيا سريعة الزوال لا تَبقى فيها لذةٌ، ولا تدومُ فيها سعادة.

 

يا كرام: ألا وإن من عظيم الوصايا النبوية، التي نحتاجها على الدوام قوله -عليه الصلاة والسلام- لرجل يعظه «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»(رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وصححه).

 

مرحلة الشباب حُقبة قوةٍ ونضارة، إلا أنَّ الشباب لا يبقى، فكلُّ شباب يعقبه هرم، فبينا ذلكم الشاب يعيش الفتوة والقوة، وإذا بالسنين تأخذ منه، فَيَعقبُ شبابَه هرمٌ، وفي لمح البصر، يمثل ذلك ‌‌قول الإمام أحمد: "ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمّي فسقط".

 

ولذا: فالموفّق من الشباب مَن عرف قدر هذه المرحلة من حياته، فحفظها بطاعة الله، واجتنب ما يسخط ربه، واستغلها بما قد يعجز عنه في كبره.

 

فالطاعات بعضها يَعسُر إذا كبر المرء، ولذا قالت حفصة بنت سيرين: "يا ‌معشر ‌الشباب، خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب".

 

والذهن وقوة الحفظ تَضعُف مع تقدُّم السن.

والعلم وحضور مجالسه يتسنى للشاب ما لا يتسنى لغيره؛ لقلة انشغاله، ولذا قال الصحابي الملهم عمر بن الخطاب: "تفقهوا قبل أن تسودوا"، أي قبل أن تصيروا سادة، بتقدُّم العمر أو بشرف المكانة والمنزلة، فيصعب التدارك.

 

وقال النووي: "ينبغي للمتعلم أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط، وحال الشباب وقوة البدن، ونباهة الخاطر، وقلة الشواغل، قبل عوارض البطالة".

 

يا كرام: وصحتك قبل مرضك: صحة المرء وما يجده من قوة وعافية في حواسّه وقواه لا تدوم، بل سنة الله في الحياة أن القوة يعقبها ضعف، وفي التنزيل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)[الروم: 54].

 

وإذا كبر العمر ضعفت القوى، كما قال المولى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ)[يس: 68]؛ فلا ينبغي لعاقلٍ أن يغترَّ بعافيته ونشاطه، فالصحة لا تبقى، وكم من امرئ ندم حين تولت عافيته واعتراه الضعف، ندم أن لم يتدارك في حال صحته بالعمل الصالح وبما ينفعه في دينه ودنياه كذلك.

 

عباد الله: وتوفر المال وسعة الرزق نعمة لا ينبغي للمرء أن يغترّ بها، فهي زخرف يزول ومتاعٌ يفنَى، والعاقل من لم يغترَّ بزهرة الدنيا، ومَن اغتنم الغِنى ولم يطغَ.

ومن طبع الكثير أنه كما قال المولى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)[العلق: 6- 7]، والموفقون هم مَن علموا أن هذه العطايا عرايا، تُوشك أن تُستَردَّ، إما في حال حياة المرء أو بعد وفاته، فجَعل المال مركباً موصلاً إلى رضا ربه، بالإنفاق منه في الواجب والمستحب، وصرفه على نفسه ومَن تتعين نفقته بلا سَرَفٍ ولا مخيلة، ولم يُطغِه المال بتكبرٍ على الخلق، ومنعٍ لما وجب عليه من الحقّ.

 

فالمالُ فتنةٌ قد تُودي بصاحبها إلى النار، وقد تَرفعه ليكون مع الأبرار، فاختر لنفسك وبيدك القرار، وفي مقول النبي -عليه السلام-: "لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار".

 

عباد الله: والتفرغ من الشواغل نعمة يعرف المرء قدرها إذا أثقلت كاهله المشاغل والأعمال، فصار لا يكاد يجد وقتاً لنفسه ولمن حوله، وربما لكي يؤدي حق ربه. لذا فاغتنم فراغك قبل شغلك، ومَن فرط في ساعات الفراغ، ندم عند تزاحم المشاغل.

 

وخاتمة الخمس الوصايا، اغتنم "حياتك قبل موتك"، أنت اليوم حيٌّ قادر على أن تتقرب إلى ربك بصالح العمل، وسيأتي يوم تغادر هذه الدنيا وتنتهي مرحلة العمل، وتبدأ آخرتك، وحينها يعرف المرء قدر حياته وأنفاسِه.

 

إن ركعة في ظلمة الله وتسبيحة في صبح أو مساء، وطاعةً لربك لهي خير من الدنيا، أولم يقل نبيك -عليه السلام-: "‌لَأَنْ ‌أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ ‌أَحَبُّ ‌إِلَيَّ مِمَّا طلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ"، فما أحقر الدنيا، إذا كانت تسبيحة وتحميدة خير منها كلها!

 

رُئِيَ بعضهم في المنام فقال: قدمنا على أمر عظيم، ‌نعلم ‌ولا ‌نعمل، وأنتم ‌تعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحبّ إليه من الدنيا وما فيها.

 

جماع القول: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ؛ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ".

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده.

 

أما بعد: من اغتنم تلكم الخمس سهُل عليه الجواب عن الأسئلة الأربعة إذ تُعرَضُ عليه، في الصحيح أن النبي  -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزول قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن عُمُرِه فيمَ أفناهُ، وعن عِلْمِه فيمَ فَعَلَ، وعن مالِه مِن أينَ اكتَسَبَه، وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسْمِه فيمَ أبْلاه"؛ تفاصيل حياتك، ولحظات عمرك سَتُسْأَلُ عنها ماذا أودعت في خزانتي الليل والنهار من أعمال.

 

عِلمك الله الذي علّمك إياه ربك في حينِ لم يفتح لغيرك، سيسأل الله عنه ماذا صنعت فيه، هل عَلِمت بما علمت، وهل سعيت في تعليم غيرك، ورفع جهله؟

 

ومالُك الذي أعطاك إياه، في حين غيرُك ربما عاش فقيراً وهو أقوى وأذكى، وربما أشرفُ وأتقى لله منك، ماذا صنعت به: من أين كسبته، وأين وضعته وصرفته؟

 

وجِسمك بهذه القوى التي تتمتع بها، سمع وبصر، عقل وقوى، جوارح صحيحة لا تشكو الوجع، في أي شيء أبليها، أفي مرضات ربك أم في سخطه.... إنها أسئلة ستمر بك فلتتهيأ لها.

 

تلكم -يا كرام- عظة نحتاج إليها على الدوام، ولا سيما ونحن في مقتبل إجازةٍ وفراغ شغل مع صحة، وقد قال -عليه السلام-: "نِعمَتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ"(رواه البخاري).

 

فاجتهد -أيها الطالب- أن لا تذهب عليك الأيام والليالي إلا في أمرٍ تحمد عقباه، في دينك ودنياك، وستمر الإجازة وسيمضي العمر، والموفقون هم الذي عملوا لآخرتهم، وقدّموا في مواسم الفراغ أعمالاً تزيدهم صلةً بالله وخدمة ونفعاً لعباد الله، ولْيُعلم أنه ليس بين الناجحين ديناً ودنيا وبين البطالين إلا علو الهمة والمبادرة للعمل.

 

المرفقات

اغتنم خمسا قبل خمس.doc

اغتنم خمسا قبل خمس.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات