شفقة ورحمة المؤمنين بالمذنبين

بندر بليلة

2025-07-11 - 1447/01/16 2025-07-12 - 1447/01/17
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/على العبد المسارعة للتوبة والإنابة 2/بعض مظاهر صفة الرحمة لله تعالى 3/الدعوة للرحمة والتيسير ونبذ التعسير 4/التحذير من المبالغة في النهي عن المنكر 5/على المسلم أن يكون شفيقا بالمذنبين

اقتباس

الحذرَ كلَّ الحذرِ من أن يكون المؤمنُ عقبةً يصدُّ عن سبيل الله، وحجر عسرةٍ يُنفِّر عن دِين الله، وحاجزًا يحُول دول الوصول إلى الله وهو لا يشعُر؛ فالقلوب بيديه سُبحانه، وهو الذي يعلم ما فيها من الإيمان واليقين والصِّدق والمحبَّة مهما تلبَّس به العبد من المعاصي...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنَّان، أحمده سُبحانه وأشكره عظيم العفو واسع الغفران، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له عمَّت رأفته جميع الأكوان، ووسعت رحمته الإنس والجان.

 

وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله ربه بين يدي الساعة بالحق والميزان والصفح والإحسان؛ صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أهل التوبة والرُّجعان.

 

أمَّا بعد: فأوصيكم -أيُّها الناس- ونفسي بتقوى الله؛ فاتَّقوا الله -رحمكم الله-، ولا تيأسوا من رَوْح الله، ولا تقنطوا من رحمة الله؛ فـ"إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يبسُط يده بالليل ليتوب مسِيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسِيء الليل حتى تطلُع الشمس من مغربها"(أخرجه مسلم).

 

عباد الله: إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أودَع في بني آدم من الغرائز والشهوات والمَيل والرغبات ما صيَّر ذلك مناطًا للتكليف بالأوامر والمنهيات، وكتَبَ عليهم حظَّهم من المخالَفات ابتلاءً منه واختبارًا ليعلم الله مَن يخافه بالغيب؛ فعن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون"(أخرجه الإمام أحمد).

 

والغاية من ذلك: أن يرجع إليه التائبون، ويُقبل عليه المنيبون، وينطرح بين يديه الأوَّابون؛ فعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم"(أخرجه مسلم).

 

وإنَّ من أعظم صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- صفة الرحمة؛ قال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156].

 

وإنَّ من أجلِّ أسمائه اسمَيِ "الرحمن، والرحيم"؛ قال -سبحانه-: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)[البقرة:163].

 

وحثَّ عبادَه على الرحمة بالخَلْق؛ فعن أسامة بن زيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "وإنَّما يرحم الله من عباده الرُّحماء"(متَّفَقٌ عليه).

 

وعن عبد الله عن عمرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يبلُغ به النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء"(أخرجه أحمد في مُسنده).

 

ومن رحمته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِعِبَادِهِ أن أنزل عليهم كُتبه، وأرسل إليهم رُسله، ولم يعجِّل لهم بالعقوبة؛ (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[فاطر:45].

 

وانتدبهم إلى التوبة، ودعاهم إلى الأوبة فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر:53].

 

ووعدهم -سبحانه- بمغفرة الذنوب وتكفير السيئات فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران:135].

 

وضَمِنَ سُبحانه لمَن تاب منهم وأناب بأن يبدِّل سيئاتهم حسنات (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان:70].

 

وأمَرَ نبيه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أن يعطف على الناس ويرأف بهم، ويقبل منهم فقال له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159].

 

بل تعدَّت شفقتُه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لتصل إلى مَن عاداه من المشركين لهول ما ينتظرهم يوم القيامة طمعًا في إسلامهم، خشية أن يموتوا على الشِّرك فيستحقُّوا عذاب الجحيم؛ قال -عَزَّ وَجَلَّ- مبيِّنًا ذلك في غير ما موضعٍ من كتابه: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف:6]، وقال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[الشعراء:3]، وقال: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[فاطر:8]؛ قال أهل العلم بالتفسير: "أي: مُهلكٌ نفسك بحُزنك عليهم".

 

فاللهَ... اللهَ عبادَ اللهِ! التلطُّف بعباد الله والإحسان إليهم والشفقة عليهم تأسِّيًا بهَدْي رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ فعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنَّ أعرابيًّا بال في المسجد، فسار إليه الناس ليقعوا به؛ فقال لهم رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "دعُوه، وأهريقوا على بوله ذَنوبًا من ماء –أو سَجلًا من ماء- فإنَّما بُعثتُم ميسِّرين ولم لم تُبعَثوا مُعسِّرين"(أخرجه البخاري).

 

وعن أبي موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كان رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إذا بعَثَ أحدًا من أصحابه في بعض أمره قال: "بشِّروا ولا تُنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا"(أخرجه مسلم).

 

والحذرَ كلَّ الحذرِ من أن يكون المؤمنُ عقبةً يصدُّ عن سبيل الله، وحجر عسرةٍ يُنفِّر عن دِين الله، وحاجزًا يحُول دول الوصول إلى الله وهو لا يشعُر؛ فالقلوب بيديه سُبحانه، وهو الذي يعلم ما فيها من الإيمان واليقين والصِّدق والمحبَّة مهما تلبَّس به العبد من المعاصي، ومهما قارَفَ من المنكَرات.

 

أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير، أحمده -سبحانه- وأشكره؛ يُقِيل العسرات ويستُر العورات ويجبُر الكسير، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، يُجازي القليل بالكثير، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أهل الرأفة والتيسير.

 

أمَّا بعد: قد تَحمِل الغَيرةُ على الدِّين والغضبُ على شرع الله طائفةً من أهل الإسلام، ونفرًا من أهل الإيمان، إن هُم رأوا المنكَرات أو صادفوا المخالَفات على مجاوزة الحد في النَّهي، والتعدِّي المشروع في الإنكار، ولربما وصل الحال بالبعض إلى الدخول فيما هو من سِمات الخالق، وخصائص الربوبية.

 

وهذا لَعَمرُ اللهِ زللٌ كبيرٌ ومزلقٌ خطيرٌ؛ فعن ضمضم بن جوسٍ اليماميِّ قال: قال لي أبو هريرة: يا يماميُّ، لا تقولنَّ لرجلٍ: واللهِ لا يغفر الله لكن أو لا يُدخلك الجنة. قلتُ: يا أبا هريرة، إنَّ هذه لَكلمةٌ يقولها أحدُنا لأخيه وصاحبه إذا غضب. قال: فلا تقُلها؛ فإنِّي سمعتُ النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقول: "كان في بني إسرائيل رجلانِ كان أحدهما مجتهدًا في العبادة، وكان الآخر مُسرفًا على نفسه، فكانا متآخيَيْنِ، فكان المجتهد لا يزال الآخر على جنب فيقول: يا هذا، أقصِر. فيقول: خلِّني وربِّي؛ أبُعثْتَ عليَّ رقيبًا؟ قال: إلى أن رآه يومًا على جنبٍ استعظمه فقال له: ويحك! أقصِر. قال: خلِّني وربِّي، أبُعثْتَ عليَّ رقيبًا؟ قال: فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يُدخلك الله أبدًا. قال: فبَعَثَ الله إليهما ملكًا فقبَضَ أرواحهما واجتَمَعَا عندَه، فقال للمُذنب: اذهب فادخُل الجنة برحمتي. وقال للآخَر: أكُنتَ بي عالِمًا؟ أكنتَ على ما في يديَّ قادرًا؟! اذهبوا به إلى النار. قال: فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلَّم بكلمةٍ أوبقت دُنياه وآخرته"(أخرجه أحمد في مُسنده، وأبو داود في سُننه).

 

واعلموا -عباد الله- أنَّ بُغض المعصية وإنكار المنكر لا يتعارض مع الشفقة بالمذنب والرحمة بالعاصي؛ بل اجتماعهما دليل كمال الإيمان كما كان عليه رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-.

 

ثم صلُّوا وسلِّموا على خير خَلْق الله محمد بن عبد الله كما أمرَكم بذلك ربُّكم فقال -جلَّ في عُلاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]؛ فاللهمَّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد.

 

وارضَ اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحُنفاء أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليّ، وعن باقي العشرة وأصحاب الشجرة، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حَوْزة الدِّين، وانصر عبادك الموحِّدين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.

 

اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين... اللهمَّ أطِل عُمره في صحةِ وعافية ونعمة سابغة ضافية، اللهمَّ وفِّقه وولي عهده الأمين لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد، وعزٌّ ونصرٌ للإسلام والمسلمين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ احفظ جُندنا المرابطين على الحدود والثغور، اللهمَّ احرسهم بعينهم التي لا تنام، واكنُفهم برُكنك الذي لا يُرام يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ كُن لإخواننا المستضعَفين مؤيدًا وظهيرًا ومعينًا ونصيرًا... اللهمَّ كُن لهم في فلسطين وفي كل مكان يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ أبدِل ضَعفهم قوة، وخوفهم أمنًا، وبؤسهم سعةً ورخاءً يا أرحم الراحمين، اللهمَّ عليك باليهود الغاصبين الصهاينة المعتدِين... اللهمَّ اكفِنا شرهم والعالمين يا قويُّ يا متين.

 

اللهمَّ اجعلنا من أرحم خَلْقك بخَلْقك، ومن أعطفهم عليهم وأكثرهم إحسانًا لهم يا رحمن يا رحيم.

 

ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

 

سبحان ربِّك رب العِزَّة عمَّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

شفقة ورحمة المؤمنين بالمذنبين.doc

شفقة ورحمة المؤمنين بالمذنبين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات