فخ الشاشات وسرقة الأعمار

الشيخ محمد الوجيه

2025-08-29 - 1447/03/06 2025-09-04 - 1447/03/12
عناصر الخطبة
1/ نعمة الوقت والعمر 2/خطورة إضاعة الوقت 3/كثرة المقاطع القصيرة في مواقع التواصل 4/عواقب الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي 5/البديل الصحيح لإدمان وسائل التواصل.

اقتباس

تنشر عقلية "الإنجاز الزائف"؛ حيث يصبح النجاح مرتبطًا بعدد المشاهدات والإعجابات، لا بالجهد الحقيقي والعمل المتقن. إن المتابعة المفرطة لهذا المحتوى تُفقِد المرء هويته الإسلامية الحقيقية، وتجعله يقلد الآخرين تقليدًا أعمى دون وعي أو تفكير، ويصبح عُرضة للتأثر بالثقافات الغربية والقِيَم المنافية لديننا...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. الحمد لله الذي وهبنا الأعمار، وجعلها مطية للآخرة، وأداة لبناء العمران.

 

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا. نحمده على ما أنعم ومنَّ، ونشكره على ما أعطى وأجزل.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة مؤمن يوقن بأن الوقت من أثمن ما يملك. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: أيها المسلمون الكرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].

 

أيها العباد: إن مِن أجلّ نِعَم الله علينا وأغلاها، نعمة الوقت والعمر؛ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115].

 

وقد حذّرنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من إضاعة الوقت والانشغال بما لا ينفع، فعن أبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ"(رواه الترمذي).

 

أيها المؤمنون: إننا في زمن عمَّت فيه وسائل التواصل الاجتماعي، وظهرت صور متعددة لهذه الوسائل في سرقة الأوقات، ومنها ما يُعرَف بالمقاطع القصيرة في مواقع التواصل التي لا نهاية لها. مقاطع لا أول لها ولا آخر، فقط حرّك بالأصبع من أعلى إلى أسفل أو يمنة ويسرة بدون تخطيط، إنما تقودك هذه الفيديوهات القصيرة في سلسلة لا نهاية لها وحالة إدمان لا تنتهي.

 

لقد أصبح التصفح في هذه المنصات عادة يومية لكثير من الناس، يستيقظون عليها وينامون عليها، ويقضون فيها أوقات فراغهم، بل وأوقات عملهم وواجباتهم.

 

لا شك أن الإنترنت نعمة إذا ما أُحسن استخدامها في نشر الخير والعلم النافع، ولكنها تحتوي على فتن عظيمة ومضار جسيمة إذا ما أسيء استغلالها وأفرط في مشاهدتها. إن الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة مشاهدة المقاطع القصيرة بشكل مفرط ومستمر، يؤدي إلى مخاطر عظيمة:

 

أولاً: ضياع الوقت الثمين وتبديد العمر.

إن الخطر الأول والأعظم هو ضياع الوقت الثمين وتبديد العمر النفيس. فقد صُمِّمت هذه المقاطع بطريقة تجعل المشاهد يدمن عليها دون أن يشعر بمرور الوقت. فكم من ساعة قضاها المرء في التمرير بين مقطع وآخر دون أن يستفيد شيئًا ذا قيمة!

 

ساعات كان يمكن أن تُقضَى في تلاوة القرآن، أو في طلب العلم، أو في صلة الأرحام، أو في القيام بأعمال الخير، أو في تربية الأبناء، أو في إنجاز الأعمال النافعة. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغ"(رواه البخاري عن ابن عباس). والغبن هو أن تبيع شيئًا ثمينًا بثمن بخس. فما أخطر أن نبيع صحتنا وفراغنا وأعمارنا بمقاطع لا تقدم لنا نفعًا حقيقيًّا في دنيانا ولا في آخرتنا!

 

 ثانيًا: تشتيت الذهن وإضعاف التركيز والقدرة على التفكير العميق. إن سرعة تقلُّب المحتوى وتنوعه في هذه المنصات يعود العقل على التحفيز المستمر، ويجعله غير قادر على التركيز في شيء واحد لمدة طويلة. فيصعب على الشخص أن يقرأ كتابًا ذا فائدة، أو أن يستمع لخطبة بإنصات وتدبر، أو حتى أن يتدبر آية من كتاب الله. يصبح العقل مشتتًا، غير قادر على الغوص في أعماق المعاني أو التفكير بشكل منطقي وعميق.

 

ولقد قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "أنتم أشد حاجة إلى العمل بالعلم منكم إلى العلم". والعمل بالعلم يتطلب تركيزًا وصبرًا ومثابرة، وكلها مهارات تضعفها هذه المقاطع السريعة.

 

ثالثًا: التأثير السلبي على القيم والأخلاق والهوية الإسلامية. قد تحتوي هذه المقاطع على محتوى مخالف للقيم الإسلامية، من التبرج والسفور، والمجون والموسيقى المحرمة، والعنف والتحريض، ونشر الشبهات والأفكار المنحرفة، والإضرار بالنفس وبالآخرين.

 

وهي تنشر عقلية "الإنجاز الزائف"؛ حيث يصبح النجاح مرتبطًا بعدد المشاهدات والإعجابات، لا بالجهد الحقيقي والعمل المتقن. إن المتابعة المفرطة لهذا المحتوى تفقد المرء هويته الإسلامية الحقيقية، وتجعله يقلد الآخرين تقليدًا أعمى دون وعي أو تفكير، ويصبح عرضة للتأثر بالثقافات الغربية والقيم المنافية لديننا.

 

رابعًا: الآثار الصحية والنفسية السلبية. إن الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى آثار صحية ونفسية سلبية، مثل إجهاد العين، والصداع، والأرق، والاكتئاب، والقلق، والشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية الحقيقية رغم كثرة المتابعين الافتراضيين. كما أن مقارنة الشخص نفسه بحياة الآخرين المثالية التي يتم عرضها على هذه المنصات يؤدي إلى الشعور بالنقص وعدم الرضا عن الذات.

 

أيها المؤمنون: إن الإسلام دين الجد والعمل، وليس دين الخمول والكسل. فلنتقِّ الله في أوقاتنا، ولنحرص على أن نجعلها مزرعة للآخرة، لا مدفنًا للأحلام والطموحات.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.

 

أما بعد: أيها المسلمون: إننا أمة أكرمت بالوقت وبوركت لها فيه، فلا ينبغي لنا أن نفرط فيه. إن الحل ليس في منع هذه الوسائل بشكل كامل، بل في استخدامها بوعي وحكمة، واستبدال العادات السلبية بأخرى إيجابية.

 

إن البديل لهذا الإدمان هو العودة إلى الأنشطة التي تُغذّي الروح والعقل والجسد. العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قراءة القرآن بتدبر، وقراءة كتب السير والتاريخ والعلوم النافعة، هي البديل الذي يبني الفكر ويقوي الوجدان. تعلم مهارة جديدة، بدلًا من مشاهدة ما يعلم، فلنقم بالتعلم والممارسة الفعلية. لنتعلم مهارة يدوية، أو لغة، أو نساهم في عمل تطوعي يخدم ديننا ومجتمعنا.

 

الاهتمام بالجسد والصحة، فالمداومة على الرياضة تحسن الصحة النفسية والجسدية، وهي وسيلة للترفيه عن النفس بطريقة إيجابية. قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء الصالحين، لنخرج من عالم الشاشات إلى عالم الواقع الجميل، لنجلس مع أبنائنا، ونحاور آباءنا، ونصل أرحامنا، ونقوي علاقاتنا بمن حولنا.

 

العمل الدعوي الهادف، لنستخدم هذه الوسائل لنشر الخير وتعليم النافع، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. فبدلاً من أن تكون المقاطع سببًا لضياع الوقت، لتكن وسيلة لجمع الحسنات والأجر العظيم.

 

أيها المسلمون: إن الحياة ساعات تطوى وأنفاس تُعدّ، وكل يوم يمضي يُدنينا من الآخرة ويباعدنا عن الدنيا. فلنتذكر قول الحق -تبارك وتعالى-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[سورة العصر: 1- 3]؛ فلنحرص على أن نكون من الرابحين الذين استغلوا أوقاتهم في الإيمان والعمل الصالح والدعوة إلى الخير والصبر على الطاعة والبعد عن المعصية.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي اليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.

 

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

 

عباد الله؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

فخ الشاشات وسرقة الأعمار.doc

فخ الشاشات وسرقة الأعمار.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات