إنجازات عظيمة

طلال بن فواز الحسان
1446/12/23 - 2025/06/19 08:21AM

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورًا، وخلق الإنسان فجعله سميعًا بصيرًا، وهداه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، إمامِ العابدين، وقدوةِ المتقين، وعلى آله وأزواجه وذريته وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..

أما بعد: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ ‌كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٨) 

أيها المسلمون: إن من أعظم من يُنعم الله به على عبده أن يرزقَه البصيرة، و أعظمُ البصيرةِ، البصيرةُ في أمر الدين والآخرة، وهي البصيرةُ التي امتنّ الله بها على أنبيائه فقال: ( وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ *  إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم ‌بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ )

وهذه البصيرةُ تنكشف وتتجلى عند أولِ ليلةٍ في القبر، عندما يرى الإنسانُ حياتَه الحقيقيةَ الأبدية، التي هي نتيجةُ أعماله في الدنيا، فإن كان خيرًا فليحمد الله، وإن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. تأمّلوا معي هذا الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ دُفِنَ حَدِيثًا فَقَالَ: «رَكْعَتَانِ خَفِيفَتَانِ مِمَّا تَحْقِرُونَ وَتَنْفِلُونَ يَزِيدُهُمَا هَذَا فِي عَمَلِهِ، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ".
نعم إن الدنيا ثمينة.. أتدرون كيف؟ إن هذه الأوقاتِ اليسيرةَ التي نتفنن في إضاعتها نستطيع أن نشتريَ بها خلودَ الأبدِ في الفردوس الأعلى من الجنة. فمن عرف أن العمرَ بضاعةٌ يسيرةُ يُسافَرُ بها إلى البقاء الدائم في الجنة لم يُضيعه. والناس في هذه الدنيا صنفان: موفق ومخذول، فالموفق من علم أن الدنيا إنما هي دار امتحان وابتلاء، يجمع الإنسان فيها زادًا للآخرة، فهو يسعى لجمع ما ينفعُه عند لقاء ربه، فيجِدُّ فيها ويجتهدُ ليقبل على الله ببضاعة يرضاها منه ويشتريها منه بجنة عرضها السموات والأرض

  .والمخذول من أصيبَ بالغفلة وفوّتَ الفرصة، وأهدر النعمة، وقتل الوقت بالبطالة، وخدعته الدنيا بزخارفها، فمال إلى لذاتها، حتى أتاه اليقين فندم الندامة التي لا انفصام لها، مردّدًا (يا ليتني قدمت لحياتي). فالحياة الحقيقة هي حياة الآخرة قال الله: ﵟوَمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَهۡوٞ وَلَعِبٞۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ‌ٱلۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٦٤ﵞ.

ونحن على بداية سنة جديدة ما رأيكم أن نفتح صفحةً جديدةً مع العمل الصالح، ونغتنمَ الوقت بالطاعات والعبادات، حتى لا نغبنَ في أعمارنا، ولا نندمَ إذا أُسدلَ الستار عن الدنيا ووُضعنا في قبورنا..

تمر علينا الثواني والدقائقُ والساعات، وعمر الإنسان يتكوّن من مجموعها، والسعيد من عمرها بالأعمال الصالحة واغتنم الأجور العظيمة المترتبة عليها، ولننظر ما يستطيعُ الإنسان أن يحققه من إنجازات هائلة في ميدان العمل الصالح في وقت يسير.

في وقت يسير تستطيعُ أن تقرأ (قل هو الله أحد) ثلاثَ مرات، وقد قال عنها النبي ﷺ أنها تعدلَ ثلثَ القرآن، فمن قرأها ثلاثًا حصل له ثوابٌ بقدر قراءة القرآن كلِّه.

في زمن قصير تستطيع أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشرَ مرات فتكونَ كَمَنْ أعْتَقَ أرْبَعَةَ أنْفُسٍ منْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، كما ثبت ذلك في الصحيحين.

في أقل من دقيقتين تستطيع أن تقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، فتُغفر لك ذنوبك وإن كانت مثل زبد البحر، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ﷺ.

وقال رسول ﷺ: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، تستطيع أن تأتي بهذا الذكر عشرات المرات في وقت يسير، وتنال هذه الأجور العظيمة.

وفي زمن يسير أيضًا تستطيع أن تقول: سبحان الله والحمد لله وتستكثر منها كيفما شئت، وقد قال عنها النبي ﷺ: "سبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض".

وفي مدة انتظارك في سيارتك أو في أي مكان تستطيع أن تقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر عدة مرات، وقد قال عنها النبي ﷺ هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، وهذه الكلمات هي أحب الكلام إلى الله.

لا حول ولا قوة إلا بالله قال عنها النبي ﷺ إنها كنز من كنوز الجنة. وهي من أعظم ما يعين على تحمّل المشاق والتضلعِ بعظيم الأعمال، هذا الكنز العظيم بين يديك، تستطيع أن تعمر به أوقاتك وتغتنم به حياتك.

عن جويريةَ بنتِ الحارث رضي الله عنها أن النبي ﷺ خرج من عندها بكرة لصلاة الصبح، ثم عاد بعد أن أضحى، وهي ما زالت في مصلاها، فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟! قالت: نعم،

فقال: لقد قلتُ بعدك أربعَ كلمات، ثلاثَ مرات لو وزنت بما قلت منذُ اليومَ لوزنتهن "سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته"، فانظر كم تستطيع أن تأتي بهذا الذكر المضاعف في زمن يسير.

الاستغفار من أحب العبادات إلى الله وهو من أسباب المغفرة ودخول الجنة وزيادة القوة وتيسير الأمور، وحصول الرحمة ( لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ ‌تُرۡحَمُونَ ٤٦)  فهنيئًا لمن فُتح له باب الاستغفار وعمر أوقاته به.

في وقت يسير من عمر الزمن تستطيع أن تصلي على النبي ﷺ مراتٍ عديدة، ومن صلى على النبي ﷺ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا، ورفعه عشر درجات، ومحا عنه عشر سيئات كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة.

وفي وقت يسير تستطيع أن تقول لا إله إلا الله عدة مرات، وتميط أذًى عن الطريق، فتأتي بأعلى شُعب الإيمان وأدناها، قال رسول الله ﷺ: "الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق".

وفي وقت يسير تستطيع أن ترفعَ يديك وتسألَ الله بجوامع الدعاء ما شئتَ من خيري الدنيا والآخرة، فقد تكون هذه الدعوات سببًا لفلاحك في الدنيا والآخرة، خاصة إذا وافقت أوقاتِ الإجابةِ وحضورَ القلب.

 وأن تقرأ وجهًا من كتاب الله، وقد قال النبي ﷺ "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها".

وفي مدة قصيرة تستطيع أن تواسيَ مهمومًا، وأن تُقدّمَ نصيحة لأخٍ تنفعُه بها، وأن تأمرَ بمعروف، وأن تنهى عن منكر، وأن تصلَ رحِمك.

وفي دقيقة واحدة تستطيع أن ترفعَ يديك وتشكرَ اللهَ تعالى وتُثني عليه على ما أولاك من نعم، وما أكرمك به من خيرات، فيكون ذلك سببًا لزيادة نعم اللهِ عليك وحفظها من الزوال، كيف لا وقد قال الله: ( وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن ‌شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ )

نعم، وتستطيع أن نستجلب رضا الله بعمل يسير لا يُكلف شيئًا. أرعوني أسماعكم لهذا الحديث العظيم الذي والله لم نستفد من هذه الخطبةِ إلا هذا الحديثَ واغتنمنا العمل به لكفانا وأسعدنا، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النَّبِي ﷺ قَالَ: "إنَّ الله ليرضى عَن العَبْد أن يَأْكُل الْأَكْلَة فيحمده عَلَيْهَا، وَيَشْرب الشَّربة فيحمده عَلَيْهَا". رضا رب العالمين تستجلبه من فوق سبع سموات، بهذا العمل اليسير، وهو أن تحمد الله بعد طعامك وشرابك. أي فضل أعظم من هذا؟ وأي غنيمة أكبر من هذه؟ فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللًا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم  ( ‌سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ) 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد..

أيها المسلمون، علمنا تلك الأجورَ العظيمةَ والإنجازاتِ الهائلةَ التي يستطيع أن يحققها المرء في وقت قصير من عمر الزمن، فتُثقّلَ ميزان حسناته، ويغتبطَ بها إذا وُضع في قبره؟ ومع ذلك نرى غفلة المسلمين عنها وعن اغتنامها، أتريدون أن أخبركم بالسر الذي إن أخذتم به يسّر ذلك لكم، وشرع أمامكم أبواب الخيرات؟ إنه باختصار: (عون الله للعبد)، الذي إذا رُزقه العبد فقد أخذ بمجامع الفلاح والسعادة.

كثير من النفوس تشتكي عدم الاستمرار على عمل الطاعات والعبادات، وعلاج ذلك يكون باستمطار عون الله، فالعبادة مهما كانت لا تكون إلا بإعانة الله، وكلما زادت المعونةُ ارتقى العبُد في سلّم العبادة، ومن هنا يتبينُ لنا شدةُ الحاجة إلى قول الله: ( ‌إِيَّاكَ نَعۡبُدُ ‌وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ).

عن مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ، أَخَذَ بِيَدِهِ وَقالَ: يَا مُعَاذُ واللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، ثُمَّ أُوصِيكَ يَا مُعاذُ لاَ تَدَعنَّ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُم أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، وحُسنِ عِبَادتِك. 

وعن أبي هريرة أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قال: أتُحِبُّونَ أنْ تَجْتَهِدُوا في الدعاءِ؟ قولوا اللهمَّ أَعِنَّا على شُكْرِكَ، وذكرِكَ، و حُسْنِ عِبادَتِكَ.  قال ابن القيم : " فجمع ﷺ بين الذكر والشكر، كما جمع سبحانه وتعالى بينهما في قوله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) فالذكرُ والشكر جماعُ السعادة والفلاح ، .. وأنفع الدعاءِ طلبُ العونِ على مرضاته، وأفضلُ المواهبِ إسعافُ العبدِ بهذا المطلوب". وقال ابن تيمية: " تأملت في أنفع الدعاء؛ فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته".  فيا من أردت الفتحَ في العبادة، والتوفيق إليها عليك أن تطبق وصيةَ النبي ﷺ المباركة لمعاذ، وتجعل من هذا الدعاء وردًا ثابتًا لك دبر كل صلاة. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

المرفقات

1750310453_إنجازات عظيمة.pdf

1750310453_إنجازات عظيمة.docx

المشاهدات 284 | التعليقات 0