الغنيمة المنسية ( دعاء الوالدين )
طلال بن فواز الحسان
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على ما وهبنا من النعم والآلاء، وأكرمنا بالذرية والأبناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُالله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا
أما بعد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾.
أيها المسلمون.. قرةُ أعين الآباء في صلاح الأبناء، ولذا نجد أن كثيرًا من الآباء والأمهات يبذلون كلَّ شي من أجل صلاح أبنائهم واستقامتهم، وحق لهم ذلك، فتراهم يهتمون بتوفير الطعامِ والشراب والملبس والمسكن والتعليم، وهذه كله مهم، بيد أن هناك ما هو أهم، هناك سبب سماوي، من وُفِّق إليه فقد اختصر على نفسه طريق التربية وصلاحِ الأبناء، وأرعوني أسماعَكم لهذه القصةِ العجيبة ( الفضيل بن عياض سيدٌ من سادات هذه الأمة وعالمٌ من علمائها الأكابر، كان له ولدٌ اسمه (علي)؛ اجتهد الفضيلُ في تربيته اجتهادًا كبيرًا، وكان يأمل أن يكون صالحًا ورعًا تقيًّا، فلمّا استصعب عليه الأمر وتعسّر حال الابن، توجّه إلى من بيده قلوب العباد سبحانه فدعا الله تعالى بهذه الدعوات قائلًا: (اللهم إنك تعلم أني اجتهدت في تأديب ولدي علي فلم أستطع، اللهم فأدبه لي)، أتدرون ما كانت النتيجة؟ استجاب الله لدعوة الأب، و أصبح عليُ بن الفضيل بن عياض إمامًا كأبيه في العلم والزهد والعبادة، بسبب دعوة والده، حتى أن بعضَ العلماء فضّله على أبيه على جلالة قدر أبيه، واسمع إلى ابن المبارك وهو يقول: "خَيرُ الناس الفُضَيْلُ بن عياض، وخيرٌ منه ابنه علي"
نعم: إن سرَّ صلاحِ الأبناء هو كثرةُ الدعاء لهم، والتضرع إلى الله تعالى أن يصلحهم ويوفقهم.
فما هو نصيبك من الدعاء لأبنائك أيها الأب المبارك.
أيها المؤمنون:
في زمن الانفتاح والمتغيرات، ومع انتشار الثقافات والشبهات، أصبح أبناءُ المسلمين يعيشون اليوم في مفترق طرق، وتحت تأثير هذه المتغيرات.. وذلك مما يُحتِّم التذكيرَ والتواصيَ بأعظمِ سببٍ يُرجى أن يصلحَ اللهُ به الأبناء؛ ذكورًا كانوا أوإناثًا، وذلكم السبب مما يملِكه كلُ والدٍ ووالدة، ذلكم هو دعاء الوالد لولده.
أيها الناس: دعاء الوالدين لأولادهم له منزلة ومزية، وإن تلك الدعوةَ رحمةٌ رحم الله بها الوالدَ والولد حين جعلها مستجابةً، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث دَعَوَات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)). نعم، إن دعوة الوالدين لها دور كبير في صلاح الأبناء وتوفيقهم واستقامتهم على الطاعة، إذًا علينا أن نقرعَ أبوابَ السماء دائمًا بالدعاء والتضرع لأبنائنا، بلا ملل أو كلل، فإن من أدمن قرع الباب يوشكُ أن يفتح له، ولنعلم أن الدعاء للأبناء يصلحُ أحوالهم، ويجبر كسرهم، ويعالج أخطاءهم، ويحمِيهم من شرور الدنيا والآخرة، فحريٌ بنا نرفع أيدينا إلى الله تعالى ونسأله أن يهديهم سواء السبيل، وأن يجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
لمّا بيّن القرآنُ الكريم صفاتِ عباد الرحمن ذكر أن من أخص صفاتهم الدعاءَ لأبنائهم قال الله: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ بل إن دعاء الآباء للأبناء هو منهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فنراهم أكثرَ الخلق اهتمامًا ببيوتهم، وأحرصَهم على صلاح ذرياتهم، أتدرون لما؟ لأنهم أدركوا دورَ الدعاء في صلاح الأبناء واستقامتهم، وعلاج عيوبهم، حتى إنهم دعوا الله تعالى من أجلهم قبل أن يولدوا .! فهذا نبي الله إبراهيم يرفع أكفَّ الضراعة طالبًا من الله تعالى أن يرزُقَه أبناءً صالحين مصلحين، فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ بل إن الخليل لم ينقطع عن الدعـاء لذريته، بل ظل يتعاهدهم بالدعوات الصالحات طوال حياتهم، ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ ويستمر في الدعاء: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ وزكريا عليه السلام يقوم في محرابه يناجي ربه: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ ودعت امرأة عمران فقالت لربها عز وجل: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: ( وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا...) ومن الأدعية القرآنية التي أوصى بها السلف ما ذُكر عن أبي معشر رحمه الله أنه اشتكى ابنه إلى طلحة بن مصرف رحمه الله فقال: استعن عليه بهذه الآية وتلا: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ فلتكن هذه الآية من ضمن دعواتك أيها الأب.
إن الولدَ الصالح لَمِن خيرِ ما يدِّخرُه المرء لنفسه بعد وفاته، فأولاد الرجل من كسبه، وعملهم الصالح من عمله، ودعاؤهم الصالح زادٌ له في قبره. وكم من أب كان مغمورًا فصار مشهورًا، وغدا بالخير مذكورًا، وحلَّ في الجنة قصورًا، بسبب ابن له، أصلحه الله بدعوة، فأعناه الله على تربيته، فبارك الله فيه ونفع به الناس!
فيا من وجد من أبنائه عقوقًا وانحرافًا، ومهما بلغوا من بعدٍ وضياع لا تحزن ولاتيأس، وابدأ من اليوم بهذا المشروع المبارك وهو الإكثارُ من الدعاء لهم دائمًا، وأحسن الظن بربك، ثم انظر كيف تنقلب أحولهم إلى خير بإذن الله.
فالدعاء الدعاء إن رمتم صلاح الأبناء...
الـخـطبة الـثـانـية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: لئن كان دعاءُ الوالد لولده من أعظم المغانم، فإن دعاءه عليه من أشد المغارم؛ وذلك أن دعوة الوالد على ولده إن كانت بحقٍّ، فهي دعوة خطيرة مجابة؛ كم من الآباء اليوم من يشتكون من مشاكلِ أبنائهم وانحرافهم وسوء أخلاقهم، وضعف دينهم، وعدم توفيق في العمل والدراسة إلى غير ذلك من الأمور، حينها يجب على الأب أن يراجع نفسه ويسألها.. هل دعاءُه لهم أكثر؟ أم دعاؤه عليهم؟ ولذلك حذَّر النبي ﷺ من الدعاء على الأبناء فقال:" لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ".
وتصور معي: بنتًا صغيرة كسرت كأسًا فتقول لها أمها: كسر الله قلبك!!ماذا لو وافقت ساعة استجابة، هل الكأسُ تعدل كسر قلب البنت؟!! أو أب يقول لولده إذا غضب عليه الله لا يوفقك، فتوافق هذه الدعوة ُساعةَ استجابة فيحرم الابنُ التوفيقَ ويتخبط في دركات الخذلان والسبب دعوة من الأب في ساعة غضب، فكيف يريد مثلُ هذا الأب، أو تلك الأمُ السعادةَ والهناء والتوفيق والصلاح للأبناء وهم يدعون عليهم صباح مساء، رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيخًا كبيرًا قد شُلّت يده، فسأله: "ما الذي أصاب يدك؟ قال: دعا عليَّ أبي في الجاهليةِ أن تُشَلَّ؛ فشُلَّتْ، فقال عمر: هذا دعاء الآباء في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟". فهذا من أخطر الأمور أن ينطق لسانُ الأبِ والأم بالدعاء على أولادهم بدل الدعاء لهم، إياك ثم إياك أن تدعو على أبنائك مهما أساؤا أو أخطأوا أو أزعجوا. وقد سأل رجل الحسن البصري، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في دعاء الوالد لولده؟ قال: نجاة، قال: فما دعاؤه عليه؟ قال: استئصال. وقد جاء رجل إلى عبدالله بن المبارك رحمه الله يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: "أدعوت عليه؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد أفسدته" . إن الدعاء على الأولاد لن يزيدهم إلا فسادًا وعنادًا وعقوقًا، وأول من يشتكي هذا العقوق هو من تسرع بالدعاء عليه.
فيا أيها الآباء:
يا من يشتكي سوء أخلاق ولده، وقلة التزامه وطاعته، إن الله تعالى قد جعل بين أيديكم سلاحًا فعالًا لإصلاح أولادكم، فلا تبخلوا على أولادكم بالدعاء سرًّا وجهرًا، في الصلاة وخارج الصلاة،
وفي العصر الحديث الكثير من النماذج الحية التي تؤكد مدى أهمية دعاء الوالدين لأبنائهم في صلاحهم وهدايتهم، فهذا أحدهم يسأل أحد الآباء، الذي رزقه الله تعالى الكثير من الأبناء المعروفين بصلاحهم واستقامتهم، وتفوقهم في دراستهم ووظائفهم؛ فيقول: "والله لا أعلم شيئًا إلا أني لا أترك الدعاء لهم أبدًا، وأستغل كل وقت استجابة في الدعاء لهم". واعلموا أن أعظم توفيق للولد أن يوفّق بوالد كثير الدعاء له.
اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأصلحهم صلاحًا عظيمًا من لدنك يا رب العالمين، اللهم أصلح أبناء المسلمين وبناتهم، وردهم إليك ردًا جميلًا، واحفظهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين..
المرفقات
1752747461_الغنيمة المنسية (دعاء الوالدين).pdf
1752747462_الغنيمة المنسية (دعاء الوالدين).docx