تعلَّم الدعاء النبوي ( راشد البداح – الزلفي ) 11 ذو القعدة 1446هـ
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمدُ للهِ كما يُحِبُ ربُنا ويرضاهُ. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، ولا معبودَ حقٌ سواهُ. وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ أفضلُ نبيٍ وأزكاهُ. فصلَّى اللهُ وسلمَ عليهِ وأعطاهُ فأرضاهُ، أما بعدُ:
فإن أيامَنا التي أمامَنا مملوءةٌ بمواسمَ جليلةٍ للدعاءِ، فلنستعدَّ لها، ولنتعلمْ كيفَ كانَ رسولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعُو ربَّهُ ويُناجيهِ؟ وكيفَ كانَ يُطبقُ قولَ ربِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}؟
والجوابُ عن هذا السؤالِ المهمِ المفيدِ يتعلقُ به خمسُ نقاطٍ مهمةٍ:
الأولى: نستشِفُّ من أدعيةِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن فيها تلذذاً بمناجاةِ للهِ، واستشعاراً لشرفِ العبوديةِ له، وأنه حالَ دعائهِ وضراعتِهِ يَستشعرُ قُربَ اللهِ وعظمتَهُ، وكرمَهُ ورحمتَهُ، وغِناهُ وقدرتَهُ، فتراهُ ربما يُطيلُ بدعائهِ فلا يُحِسُّ بالإطالةِ، حتى تظنَّ أن روحَه تَعرجُ إلى الملأِ الأعلى.
ثانياً: يتجلَّى لنا من استفتاحهِ الدعاءَ بجوامعِ الثناءِ على اللهِ أن هذهِ الفواتحَ مملؤةٌ حباً وتعظيماً لربهِ، فمِن جميلِ وجليلِ ثنائهِ في دعائهِ قولُهُ: اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الفَقْرِ([1]).
وهذا الثناءُ العظيمُ يبينُ أن الدعاءَ النبويَ حالةُ استغراقٍ في الامتنانِ للهِ بعظيمِ إنعامهِ.
ثالثاً: كانتِ الضراعةُ ظاهرةً في حالِ يديهِ حينَ يرفعُهُما ويبسُطُهُما، وربما رفعَهُما حتى يبدوَ بياضُ إبطيهِ، وعندما وقفَ بعرفةَ رفعَ يديهِ إلى صدرهِ كاستطعامِ المسكينِ؛ مبالغةً في إظهارِ الافتقارِ للهِ -عزَّ وجلَّ-. وفي غزوةِ بدرٍ ألحَّ على ربهِ وناشَدَهُ، حتى سقطَ رداؤهُ عن منكبيهِ([2]).
رابعاً: نُلاحظُ أن الدعاءَ ملازمٌ لكل حالٍ من أحوالِ حياتهِ ويومهِ، فعندما يضعُ جَنبَه لينامَ يدعُو، وعندما يخرجُ من بيتهِ يدعُو، وفي دخولهِ وخروجهِ من المسجدِ يدعُو، وفي صلاتِهِ يدعُو، وعندَ أولِ السفرِ وآخرهِ يدعُو، بل كان في أدعيتهِ يَستوعِبُ حتى حاجاتِ الدنيا، وانظرْ لهذا الدعاءِ كيف أوردَ فيه الاستعاذةَ باللهِ أن يُجِيرَهُ من منغصاتِ الحياةِ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَضَلَع الدَّيْنِ وَغلبة الرِّجَالِ([3]). بل حتى لحظاتِ القُربِ الحميميةِ مع الزوجةِ لها دعاؤها: بِاسْمِ الله، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا([4]).
بلْ لقدْ كانَ في دعائهِ يتقصَّدُ جوامعَ الدعاءِ الجامعةَ لخيرَيِ الدنيا والآخرةِ، ولذا كانَ أكثرُ دعائِهِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ([5]). فانظرْ هل ثَمَّتَ خيرٌ لم يَحْوِهِ هذا الدعاءُ النبويُ الجامعُ، وهل ثَمَّتَ شرٌ لم يُستدفَعْ بهذا الدعاءِ؟
فالدعاءَ الدعاءَ يا زاهداً بالدعاءِ برغمِ ثمرتِهِ، ويا عاجزاً عنه برغمِ سهولتِهِ. ألم تعلمْ أن رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ([6]).
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ اللطيفِ الخبيرِ، وصلى اللهُ وسلمَ على البشيرِ النذيرِ. أما بعدُ:
فهل سعِدَتْ أمةُ محمدٍ بدعواتِ محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟!
والجوابُ: نَعَم إيْ واللهِ! فقد كانتْ أمتُهُ همَّهُ الأكبرَ. وما أكثرَ ما كانَ يدعُو لأمتِهِ بشدةِ مناشدةٍ لربِهِ، فعندما كسفتِ الشمسُ خشيَ أن تكونَ عقوبةً على أمتهِ، فَسُمِعَ في سجودِهِ يَنفُخُ ويُنادِي ربَّهُ: رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَلَّا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ؟ أَلَمْ تَعِدْنِي أَلَّا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ؟([7]).
وفي موقفٍ آخرَ تلا قَوْلَ أخيهِ عِيسَى -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي. وَبَكَى! فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ([8]).
أما يومُ القيامة فإنهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد ادَّخرَ أغلى دعواتِهِ؛ ليدعوَ بها لأمتِهِ أحوجَ ما تكونُ إليها فقالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ([9]).
ودعاءُ الأنبياءِ يومَئذٍ: اللهم سلم سلم، ودعاءُ نبيِكَ: اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي.
فما أعظمَ بركةَ هذا النبيِ على أمتهِ، وما أسعدَها بدعائِهِ ودعوتِهِ وسنتِهِ.
- فاللهم إنا آمنَّا بنبيِكَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحببناهُ واتبعناهُ وما رأيناهُ اللهم فلا تحرمْنا رؤيتَه يومَ القيامةِ.
- اللهم اجعلنا من إخوانِه الذينَ تمنَّى رؤيتَهم يومَ قالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ.
- اللَّهُمَّ أَنْتَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ دُعِيَ، وأجودُ من سُئلَ.
- اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ بِنُوْرِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ الذِي أشْرَقَتْ لَهُ السَّمَواتُ والأرْضُ أنْ تَقْبَلَنَا في هَذِهِ السَّاعَةِ وتَرْضَى عَنَّا رِضىً لا سَخَطَ بَعْدَهُ أبَدًا.
- اللهم بفضلِك أعطيتَنا الإسلامَ ونحنُ ما سألْناكَ، فأدخِلْنا الجنةَ برحمتِكَ ونحنُ نسألُكَ.
- اللهم احفظْ لنا دينَنَا وبلادَنا وجنودَنا وحُجاجَنا وفجاجَنا وأدِمْ أمنَنا.
- اللهم وفقْ وسدِّدْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِهِ لهُداكَ. واجعلْ عمَلَهما في رضاكَ.
- اللهم صلِ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
([1]) «صحيح مسلم» (2713).
([2]) «صحيح البخاري» (2915)، و«صحيح مسلم» (1763).
([3]) «صحيح البخاري» (2893).
([4]) «صحيح البخاري» (141)، و«صحيح مسلم» (1434).
([5]) «صحيح البخاري» (6389)، و«صحيح مسلم» (2690).
([6]) مسند أبي يعلى ( 6649 ت حسين أسد)
([7]) «سنن أبي داود» (1194).
([8]) «صحيح مسلم» (202).
([9]) «صحيح البخاري» (6304)، و«صحيح مسلم» (198).
المرفقات
1746680460_��تعلم الدعاء النبوي�.pdf
1746680477_��تعلم الدعاء النبوي�.docx