عناصر الخطبة
1/ مفاتيح السعادة 2/الإيمان والعمل الصالح 3/من ثمرات ذكر الله تعالى 4/سر الحياة الطيبة ومفتاح العيشة الهنية 5/من أعظم مفاتيح السعادة وأوسع أبوابها 6/ من أعظم أسباب تكدُّر الحياة وتنغُّصِهااقتباس
والله إنك لترى المؤمن التقي من أطيب الناس عيشاً، وأشرحِهم صدراً، وأسرِّهم قلباً، وهذه جنةٌ عاجلة قبل الجنة الآجلة. إن ضاقت بك الهموم، وأحاطتك الغموم، فافزع إلى الصلاة، يشرَحِ الله صدرَك، ويُذهب عنك ضيق نفسك، ويرسل في قلبك نبضات الطمأنينة والأمن...
الخُطْبَة الأُولَى:
الباحثون عن السعادة، الطامحون لتحقيق الحياة الهنية، كثيرون، كل مسلم، بل كل أحدٍ على هذه البسيطة يُؤمّل لنيلها، كلٌّ يريد انشراح الصدر، وطمأنينة النفس، وراحة البال.
فأين توجد هذه الحياة الطيبة المستقرَّة؟ كيف نعيشها في أنفسنا وفي مجتمعاتنا، ونؤمّنها لأجيالنا وأبنائنا؟
إنه سؤال يَرِدُ على الخاطر كثيراً، وهو على لسان الحال والمقال دائماً، وللجواب عليه يقال: إن كتاب الله وسُنة رسول الله فيهما الهدى والشفاء، فمن اتبع النور الذي فيهما، وتمسك وعضَّ عليهما، أخذ بحظ وافر من العيش الهنيء، والحياة الطيبة؛ (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 6].
فالله خلق الخلق لا بقصد إشقائهم، بل بيَّن طريق السعادة والهناء، ودرب الشقاء والعناء، فمن حاد بنفسه عن ذلكم الطريق، فربما ناله الغمّ والشقاء في دنياه وأخراه.
ومن تأمل نصوص الوحيين وجد من أسباب السعادة ما ينبغي التذكير به كي تطيب الحياة، وتسعد النفوس.
فأول مفاتيح السعادة، وأُسَّها وأساسها هو الإيمان بالله -تعالى- ربّاً، وخالقاً ومدبَّراً.
إذا عرف العبد ربَّه بأسمائه وصفاته، وأنه المالك المدبِّر، بيده نواصي العباد، حينئذٍ تطمئن نفسه، ويثبت جأشه، ويقوى قلبه، لأنه يعلم أنَّه يأوي إلى ركن شديد، ويحتمي بملِك عظيم، قد توكل عليه، وفوَّض أمره إليه.
إنه إيمانٌ غيبي لربٍّ ملِك عظيم، إيمانٌ يورث المحبة والرجاء والخوف، فتنطق حينها الجوارح بهذا الإيمان، فتنطلق في بحار الأعمال الصالحة؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
وحين يستقر في القلب التُّقى، فلْيبْشِر بعدها بالراحة والهناء؛ يقول الله -تعالى- واعداً ومؤكداً (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[يونس: 62].
ووالله إنك لترى المؤمن التقي من أطيب الناس عيشاً، وأشرحِهم صدراً، وأسرِّهم قلباً، وهذه جنةٌ عاجلة قبل الجنة الآجلة.
أيها المبارك: وإن ضاقت بك الهموم، وأحاطتك الغموم، فافزع إلى الصلاة، يشرَحِ الله صدرَك، ويُذهب عنك ضيق نفسك، ويرسل في قلبك نبضات الطمأنينة والأمن، عرف ذلك أعلم الناس بربه؛ فقال: "وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة"، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
عباد الله: وذِكْر الله مفتاح سعادة وهناء، وهو ميسور على اللسان، ثقيل في الميزان، وما أنجعه لشفاء كل جنان! حينما تتكاثر الأحزان والهموم يأتي ذكر الله فيرفع الهمّ ويُبدّد الغم ويشرح الصدر.
فيا كل متكدِّر مضطرب متنغّص، الأمان أمامَك، والراحةُ بين يديك، فاغرُف منها كيفما شئت (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
عباد الله: ولزوم التوبة والاستغفار، من مفاتيح نوال الطمأنينة والاستقرار.
فبالاستغفار تُدفع الكوارث والقلاقل؛ (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الأنفال: 33].
وبالاستغفار تستمطر الخيرات والنعم المباركات. وبالاستغفار تُدرك ألوان الزينة، وأنواع النعيم التي تهنأ معها النفوس؛ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10- 12]
وبالاستغفار تنقشع الأحزان، وتزول الأشجان. وأيم الله.. إنك لتجد عند المدمن على الاستغفار من طيب العيش، وتسهيل الأمور ما لا تجده عند غيره، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود: 3].
عباد الله: وسِرُّ الحياة الطيبة، ومفتاح العيشة الهنية: القناعة بالرزق، والرضا بما قسم الله، وإذا رُزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة، وما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى.
خذ القناعة من دنياك وارض بها *** لو لم يكن لك إلا راحة البدنِ
وانظر لمن حوى الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير الطيب والكفنِ
ستجد في الناس من هو أكثر منك نعماً، ستجد فيمن حولك من نال ما فقدتَ، وحقّق ما عنه عجزتَ، فإذا ما دبَّ في نفسك عدم القناعة بما أعطاك ربك فاعلم أن الهموم والأحزان ستداهم قلبك، وما أحسن تلك القولة من نبينا "قد أفلح من أسلم، ورُزق كَفافاً، وقنَّعه الله بما آتاه"(رواه مسلم)، وقد قال ربنا لموسى -عليه السلام- كلمة كم نحتاج إلى أن تكون عنوانًا لحياتنا إن أردنا الطمأنينة والرضا: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الأعراف: 144].
عباد الله: ومن أعظم مفاتيح السعادة وأوسع أبوابها: اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، وربَّ صدقة لمسكين، أو مسحةٍ لرأس يتيم، أو مشية في حاجة غريم تكون سبباً لدعوات لك في ظهر الغيب، تسعد معها دنيا وآخرة.
كم يسعد المرء يوم أن يساهم في كفكفة دمعة، أو يسد حاجة، وتلك سعادة دنيوية يتبعها -بإذن الله- سعادة أخروية إن خلصت النية، قال ابن القيم: "فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا وأطيبهم نفسًا وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرًا وأنكدهم عيشًا وأعظمهم همًّا وغمًّا".
عباد الله: كظم الغيظ، والعفو عن المسيء سببٌ لنيل الحياة الهينة والتلذذ بطعمها، فأطفئ نار الغضب في قلبك بماء الصفح والمسامحة، واجعلها تاجاً على رأسك.
تيقن -رعاك المولى وحباك- أن مسامحة الخلق رفعةٌ لك بين الخلق، وصيانةٌ لك من العداوة التي توغر الصدور، وفي الحديث: "وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً"(رواه مسلم).
وصدق الله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 34- 35].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فإن من أعظم أسباب تكدُّر الحياة وتنغُّصِها: أن يختار الإنسان طريق الشقاء، وسبيل الضلال، فيقع في الشرك، أو الكفر، أو في شيء منهما؛ قال الله مبيِّناً حال أهل الضلال: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)[الأنعام: 125].
والجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلاَّم للعبيد، فحين ضاقت نفوسهم عن الحق والهدى، جازاهم ربهم بضيقٍ في صدورهم، ووحشةٍ في قلوبهم، جزاءً وفاقاً؛ (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 125].
وحين يعصي العبد ربه تضيق نفسه، ويُظلِم قلبه، فالمعاصي تورث في القلب ظلمة، وفي الصدر كآبة، لا يشعر معها العاصي بسعادة، ولا يهنأ بعيش، وإن حصل له معها سرورٌ فهو فرحٌ عابر، يزول سريعاً، وتبقى الحسرة والكَمَد.
قال ابن القيم: "وسِرُّ ذلك أنَّ الطاعة توجب القرب من الله، فكلما قوي القرب قوي الأُنس، والمعصية توجب البعد من الربِّ، وكلما ازداد البعد قويت الوحشة، ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوِّه للبعد الذي بينهما".
ويكفي المعصية شُؤماً أنَّ الله سمَّاها ضلالاً مبيناً؛ (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب:36].
وبعد -أيها المبارك-: احرص على أسباب السعادة وتشبّث بها يطب عيشك، وتهنأ حياتك، واعلم أن القلب كلما قرب من خالقه أسعده وآنسه، وكلما بعد عن حياضه، وتنكب طريق مراضيه عاش الهمّ والعناء.
اللهم أصلح عيشنا في الدنيا، وباعد عنَّا أسباب العناء ولا تجعلنا من أهل دار الشقاء.
التعليقات