أبو بكر الصديق رضي الله عنه (1)

د. منصور الصقعوب

2025-07-11 - 1447/01/16 2025-07-28 - 1447/02/03
عناصر الخطبة
1/فضائل أبي بكر الصديق 2/إسلامه وصحبته 3/مكانته بين الصحابة 4/مواقف خالدة من حياة الصديق.

اقتباس

لو وُضِع في كفّة والأمةُ في كفّة لرجح بهم، عن رجلٍ جمع الخير من أطرافه، وولج الشرف من سائر أبوابه، هو صِدِّيقُ الأَتْقِيَاءِ، وَنُخْبَةُ الْفُضَلاءِ، وَعُمْدَةُ الْنُبَلاءِ وخيرة العباد بعد الأنبياء، رجلٌ يأتي في صحيفة حسناته خمسة من العشرة المبشرين بالجنة أسلموا على يده....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحديث عن القدوات حديث لا تَملُّه الأسماع، وتطرب له القلوب والآذان؛ لأن حديثهم ذكرى، وأخبارَهم تستحق أن تُروَى، سِيرهم عطرة، وأحوالهم رياضٌ نضرة.

 

وحديث اليوم هو عن رجلٍ إذا عُدَّ الرجال، لو وُضِع في كفّة والأمةُ في كفّة لرجح بهم، عن رجلٍ جمع الخير من أطرافه، وولج الشرف من سائر أبوابه، هو صِدِّيقُ الأَتْقِيَاءِ، وَنُخْبَةُ الْفُضَلاءِ، وَعُمْدَةُ الْنُبَلاءِ وخيرة العباد بعد الأنبياء، رجلٌ يأتي في صحيفة حسناته خمسة من العشرة المبشرين بالجنة أسلموا على يده.

 

رجلٌ أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس لأحد عليه منَّة إلا هو، إنه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ فتعالوا بنا نعيش هذه الدقائق مع صور من حياته.

 

هو عبد الله بن عثمان القرشي، وُلِدَ بعد الفيل بثلاث سنين تقريباً، وكان -رضي الله عنه- صديقاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وهو أصغر منه سناً بثلاث سنوات، وكان يُكثِر غشيانَه في منزله ومحادثتَه، ولما جاء الإسلام، كان مَن أول أسلم، أسلم وما تلعثم، وتقدَّم وما تردَّد.

 

لم يكن إسلامه هيّناً، لكنها العزيمة الماضية، كان في الجاهلية من رؤساء قريش محبّباً فيهم، كان تاجراً ذا ثروة طائلة، حَسنَ المجالسة، ولك أن تتصور أن هذه المكانة الكبيرة في المجتمع ستتحولُ إلى عداوةٍ وخصومة بمجرد أن يَخرج من براثن الجاهلية، ويدخُل الإسلام، لكن الصحابة ما كانوا يُفكّرون في الشرف الدنيوي، بل همهم رضا الله فقط وإن سخط الخلق، لذا استحقوا أن يُشرفهم الله بأرفع المنازل، وكان للسابقين منهم من الفضل ما ليس لمن آمن بعد ذلك.

 

أسلم أبو بكر في أول من أسلم، وانطلق بعد ذلك داعية للدين، فأسلم على يده جماعة منهم: عثمانُ بن عفان، والزبيرُ بن العوام، وعبدُ الرحمنِ بن عوف، وسعدُ بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.

 

وكان -رضي الله عنه- في بدايات الإسلام يريد أن يُظهِر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- دعوتَه، وكان -صلى الله عليه وسلم- يتمنع حتى يقوون، وبعد إلحاح من الصحابة طاوعهم، فخرجوا.

 

وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، ودعا إلى رسول الله، فثار المشركون على أبي بكر -رضي الله عنه- وعلى المسلمين يضربونهم، ووُطئ أبو بكر بالأرجل وضُرِب ضرباً شديداً، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يُعرَف أنفه من وجهه، فجاءت قومه بنو تيمٍ يتعادون، فأجلوا القوم عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكُّون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: "والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة".

 

ثم رجعوا إلى أبي بكر، وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار، ثم تكلم وكان أول ما قال: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فعاتبوه، فصار يكرر ذلك فقالت أُمّه: والله ما لي علمٌ بصاحبك، ولم يطمأن حتى علم أنه سالِمٌ، وأنه في دار الأرقم، فقال: والله لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمهلته أُمّه إلى الليل، حتى إذا هدأت الرجال وسكن الناس خرجت به يتكئ عليها حتى دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرَقَّ له رقةً شديدة وأكبَّ عليه يُقبِّلُه وأكبّ عليه المسلمون كذلك؛ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي، وهذه أُمّي برّةٌ بولدها، فعسى الله أن يستنقذها من النار، فدعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.

 

رضي الله عن أبي بكر، وقف مناصراً للمصطفى في كل موقف، قام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مرةً يصلي في حجر الكعبة، فجاء عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي، وقال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ)[غافر: 28].

 

قال عليّ: ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش فهذا يُحادُه، وهذا يتلتله، ويقولون أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فوالله ما دنا منه أحدٌ إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم! (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ)؟!

 

رضي الله عن أبي بكر، كان مالُه لتحرير المعذبين في الله، حتى أعتق سبعةً كُلهم يعذَّبُ في الله، ومن أشهرهم بلال بن أبي رباح، الذي أسلم مبكراً، فلقي من سيده أُمية بن خلفٍ الأذى الشديد، كان يُخرجه إلى شمس الظهيرة في الصحراء بعد أن منع عنه الطعام، ثم يلقيه على ظهره فوق الرمال المحرقة الملتهبة ثم يأمر غلمانه فيحملوا صخرة عظيمة ويضعوها فوق صدر بلال وهو مُقيَّد اليدين، ثم قال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، وبلالٌ بكل صبر وثبات يردد: أحدٌ أحدٌ.

 

رآه أبو بكر فاشتراه من أُمية بسبع أواقٍ، وقال لسيده: لو أبيتم بيعه إلا بمائة أوقية لأخذته، فأنزل الله على إثرها آياتٍ تتلى؛ (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى)[الليل: 17- 20]؛ فكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا يعني بلالاً".

 

رضي الله عن أبي بكر، كان وَرِعاً لا يَلِج في جوفه إلا حلالٌ، فبارك الله له في ماله وذريته، تروي عائشة أنه "كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطنِهِ"، وهكذا يكون الورع في المطعم.

 

أما الموقف الأبرز في حياة الصديق في مكة فكان موقفُ الإسراء والمعراج، خبرٌ لا تصدّقه إلا القلوب المؤمنة، أن تذهب لبيت المقدس في ليلة وتصعد السماء ثم تعود، قالت عائشة: "لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناسٌ، كانوا آمنوا به وصدّقوه وسعى رجالٌ إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أن أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك فقد صدَق، قالوا: أو تُصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟! قال: إني لأُصدّقه فيما هو أبعد من ذلك، أُصدّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فسُمِّي -رضي الله عنه- بالصِّدِّيق.

 

هنا تتطامن الألقاب، هنا تحنو التشريفات، هنا يقف الفخر، فأيّ فخر وأيّ لقب وأيّ شرف أشرف من هذا اللقب؟!

 

اللهم ارض عن أبي بكر واجمعنا به مع رسولنا في الجنة، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: حين اشتد البلاء هاجر الصحابة إلى الحبشة، وبقي أبو بكرٍ بقرب النبي -صلى الله عليه وسلم- متحملاً كل ذلك، حتى أذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة للمدينة، تقول عائشة: "بينما نحن يومًا جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبلاً متقنعًا في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها.

 

قال أبو بكر: فدًا له أبي وأمي، والله إن جاء به في هذه الساعة إلا لأمرٌ، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل، فقال لأبي بكر: "أَخْرِجْ مَن عندك"، قال: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج"، فقال: فالصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: "نعم"، قال فخذ بأبي أنت إحدى راحلتي هاتين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بالثمن".

 

خرج الصاحبان، في أعظم رحلةٍ في تاريخ أمّة الإسلام، رسول الله، وأبو بكر، خرجا في الخفاء، خوفاً من بطش قريش، لزما الغار ثلاثة أيام، يأتيهم راعي غنم أبي بكر بالحلاب، وتأتيهم أسماء ابنة أبي بكر بالطعام، بيتٌ كله مناصر للرسالة، ورجلٌ هو وماله وغلمانه فداءٌ للإسلام.

 

كان أبو بكرٍ -رضي الله عنه- معه في سفر الهجرة يمشي أمامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: «أذكر الرَّصَد فأكون أمامك، وأذكر الطَّلَب فأكون وراءك».

 

يقف الجبلان رسول الله وأبو بكر في غارٍ، والأرض تبحث عنهم، والعيون تلاحقهم، تمر بهم قريش وهم يبحثون عنهم، فيقول أبو بكر: لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرآنا، فأعطاه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- درساً عملياً في الثبات والتوكل: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، حتى سلمهما الله ودخلا المدينة.

 

عباد الله: وتستمر أعظم صحبة في التاريخ، فلا يُرى رسولُ الله إلا ومعه أبو بكر، ولا عجب فهو أقربهم لقلبه، قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: قلت: يا رسول الله! أيّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: مِن الرجال؟ قال: "أبوها".

 

وبرغم ما كان بين الصديقين أبي بكر وعمر من صحبة، إلا أنه حصل بينهما موقفٌ تبيَّن منه قدرُ أبي بكر ومنزلته بين الصحابة، قال أبو الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ»، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلاَثًا.

 

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.

 

فهل تعجب من اعتذار أبي بكر لعمر، أو من مدافعته عنه عند النبي، أو من انتصار النبي -صلى الله عليه وسلم- له، فرضي الله عن أبي بكر وعمر، وبقية الصحابة، -رضي الله عنهم- جزاءً ما بذلوا وضحوا، -رضي الله عنهم- جزءا ما نصروا الدين وله نشروا. واللهم احشرنا معهم في أعلى جناتك يا رب العالمين.

 

ولم ينتهِ الحديث عن أبي بكر، فله تتمة في الجمعة القادمة إن شاء الله؛ نبيّن لك أبا بكر العابد، وأبا بكر القائد.

 

المرفقات

أبو بكر الصديق رضي الله عنه (1).doc

أبو بكر الصديق رضي الله عنه (1).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات