أصحاب الأخدود

د. منصور الصقعوب

2025-07-11 - 1447/01/16 2025-07-29 - 1447/02/04
عناصر الخطبة
1/تأملات في قصة أصحاب الأخدود 2/جزاء الظالمين في الدنيا والآخرة 3/النهايات السعيدة لأهل الإيمان 4/حقيقة الانتصار 5/دروس مستفادة من قصة أصحاب الأخدود 6/وجوب الثبات على دين الله وأوامره.

اقتباس

لقد رحل أصحاب الأخدود، وماتوا بالحريق، وفي النهاية يصف الله نهايتهم بأنها الفوز الكبير، فيا سبحان الله! يُحرقون، ويُقتلون، وعن دينهم يفتنون، ثم يكونون هم الفائزين، إن النصر إذاً ليس انتصاراً آنيّاً في معركة، أو علواً في الأرض ورفعة، بل ربما قُتِلَ المرء وهو المنتصر! ...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

 

الحكايات جندٌ من جنود الرحمن، يُثبِّتُ الله بها قلوب أهل الايمان، ويُنير بها بصائر ذوي العرفان، ويأخذ منها العقلاءُ الدروسَ على مرّ الأزمان.

 

وإذا كان كذلك فقصص القرآن والأخبار التي ساقها الله في محكم التبيان فيها من العظة والاعتبار، والدروس والادّكار ما ينير الألباب ويشرح الصدور.

 

وما كانت أحاديث تفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيءٍ وهدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون.

 

وإطلالةٌ على قصص القرآن، تقابلك قصةٌ من عجائب القصص، فلئن سمع الناس بحوادثِ قتل، وجرائمِ تعذيب، وعملياتِ إبادة، فإنها لن تكون كقصة أصحاب الأخدود شناعةً وفظاعةً، إنها قصةٌ تحكيها آياتٌ قلائل في كتاب الله في سياقٍ مليءٍ بالدروس والعبر لمن تأمل واعتبر.

 

تبدأ القصة بالأقسام المتتابعة التي تهزّ القلوب (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)[البروج: 1- 3]؛ ويأتي بعدها الوعيد المحقق لمن آذى المؤمنين وحرّق (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) [البروج: 4]، لقد كانت جريمةً بشعةً بحق. حينما حفر الكفار الأخاديد الكبيرة وأضرموا فيها النيران المحرقة، وأوقفوا المؤمنين على شفيرها برجالهم ونسائهم، فمن ارتد عن إيمانه نجا ومن ثبت على دينه أُلقي فيها

 

(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ)[البروج: 5- 6]؛ في مشهدٍ من الكفار، فما رحموا صغيراً ولا شيخاً كبيراً. لم تكن جناية هؤلاء المؤمنين، إلا أنهم يؤمنون بالله، إلا أنهم يدينون بالدين الحق، إلا أنهم ثبتوا على الإيمان. وما أعظمها من جريمة في نظر أهل الكفر!

 

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[البروج: 8- 9]، وهل تعتقد أن ما جرى كان في غفلةٍ من الرقيب سبحانه؟ كلا. فلقد جرى كل ما جرى والله يطلع ويرى، ما يُفعَل بأوليائه، وكيف يتجبر أعداؤه، ولذا قال: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

 

فأين جزاء هؤلاء الكفار إذاً؟ وكيف كانت نهاية الظالمين؟ أهكذا تُزهق أرواح المؤمنين، ويُحرق النساء والأطفال في الأخدود، وتبقى الفِرْقة الباغية الظالمة من هؤلاء الكفار ناجية قد سلمت لهم دنياهم؟ ولطالما تساءل أناس يرون الكفار يفتكون بالمسلمين: أين نصرة الله لهم؟

 

وهنا تتجلى في الآيات حقيقةٌ لا بد أن يعيها كل مسلم؛ وهي أن الجزاء لا يلزم أن يكون في الدنيا، فالحياةُ ليست الدنيا وحدها، وما يجري على الناس في الدنيا ليس إلا جزءاً يسيراً من الحياة، تَكمُل فصوله في البرزخ، ثم في الآخرة، فهناك الحياة الكاملة التي لا تساوي الحياة الدنيا شيئاً أمامها، وما الحياة الدنيا بالنسبة لها إلا لهوٌ ولعب.

 

لقد أُغلِق الحديثُ عن أصحاب الأخدود في الدنيا بإلقاء المؤمنين في الأخدود، وأما في الآخرة فقد قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[البروج: 10]؛ لقد نُصَّ على الحريق ليكون مقابلاً لعذابهم حين حرقوا أصحاب الأخدود، فحريقٌ في مقابل حريق، ولكن أين هذا من هذا؟ حريق الدنيا بنارٍ يوقدها الخلق وحريق الآخرة بنارٍ يوقدها الخالق.

 

حريق الدنيا لحظاتٌ وتنتهي وحريق الآخرة لا ينقضي. فأين حريق الدنيا من حريق الآخرة في شدته أو مدته أو فظاعته؟

 

عباد الله: وإذا كانت هذه نهايات الظالمين فما هي نهايات المؤمنين؟ قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)[البروج: 11]؛ نعم، إنها النهايات السعيدة لأهل الإيمان بالنجاة من النيران والفوز بالجنان، وفوق ذلك رضا الرحمن، فحقاً إنه الفوز الكبير، وبهاتين النهايتين يستقر الأمر في نصابه، ويجازى كل امرئ بما فعل.

 

لا يلزم أن يكون الفوزُ في الدنيا، فالدنيا هينةٌ على الله، ولو كانت تعدل عنده -سبحانه- جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وهي أهونُ عليه من الجيفة الملقاة التي يرغب عنها كل أحد، وإذا كانت كذلك، وبهذا الهوان، فإن الله ربما لا يجعل الفوز لأوليائه فيها؛ فالله لا يرضاها لوحدها جزاءً لأوليائه، ولا يجعلها العقوبة والجزاء الوحيد لأعدائه، ألم يَجُعِ الأنبياءُ في الدنيا مع كرامتهم على الله في حين تشبع السباع ويتنعم الكفار؟

 

ألم يقل الله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 33- 35].

 

ومهما علت الدنيا للمؤمن وسفلت للكافر فلن تخرج عن قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".

 

كم من ظالمٍ كان بين الناس، وكافرٍ آذى المؤمنين، وعصى الله، بقوا في الدنيا سنيناً، وفي النهاية ربما يموت الظالم ولم ينل من العذاب في الدنيا شيئًا. ولكن لا تنتهي الأمور على هذا، فأين إذاً قول الله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم: 42].

 

لقد رحل أصحاب الأخدود، وماتوا بالحريق، وفي النهاية يصف الله نهايتهم بأنها الفوز الكبير، فيا سبحان الله! يُحرقون، ويُقتلون، وعن دينهم يفتنون، ثم يكونون هم الفائزين، إن النصر إذاً ليس انتصاراً آنيّاً في معركة، أو علواً في الأرض ورفعة، بل ربما قُتِلَ المرء وهو المنتصر!

 

إنه انتصار المبادئ، إنه الانتصار على الشيطان وعلى أعداء الإسلام بثباته على الإيمان، إنه الفوز بالجنة والنجاة من النار، إنه الفوز حين أمضى المرء دنياه وهو في مرضاة مولاه، فهؤلاء هم الفائزون.

 

لقد قُتِل غلام الأخدود بسهمٍ من الكفار فقال الناس بعد موته: آمنا برب الغلام، أوليس هذا انتصارًا؟

 

فما أحوج المسلم إلى أن يثق بنصر الله، ويؤمن بوعد الله، وأن يعلم أن الله تعبَّده بأن يحيا في سبيل الله، وفي خدمة دين الله، وأما النتائج فَيَكِلُها إلى الله، وأن يعلم أن الله لن يَتِرَه من عمله شيئاً، ولئن لم يرَ نصرة الإسلام بعينيه، فلن يُحرم -بإذن الله- من أن يذيقه جزاء المؤمنين في جنته، وذلك هو الفوز الكبير.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

أما بعد: فإن من الدروس التي يستقيها المرءُ من خبر أصحاب الأخدود درسُ الثبات، فحينما تأتي عواصف الفتن وجوارف الابتلاء، فما أحوج المسلم إلى الثبات على دينه، تذكر كتب الأخبار أن امرأةً وقفت على شفير حفرة أصحاب الأخدود ومعها طفلها، فتلكأت خوفاً على صبيها، فأنطقه الله، وقال لها: "يا أماه اصبري فإنك على الحق".

 

إنه درسٌ يبين لك أنه ليس بين الثبات والانحراف إلا زلة، فلو تراجعت المرأة لزلت وارتدت، وحينما ثبتت نجت، وإنما النصر صبر ساعة.

 

إننا اليوم بحاجةٍ أشد من أيّ وقتٍ مضى إلى التذكير بالثبات على دين الله وأوامره، فقد كثرت المغريات من شهواتٍ وشبهات، فإذا ما أتاك الابتلاء وخشيت على نفسك من الزلل والانحراف، فتذكر تلك المرأة الضعيفة كيف ثبتت، ولك فيها أسوة.

 

ودرسٌ آخر يُستقى من خبر أصحاب الأخدود، وفيه تتبين سعة رحمة الله، إن أصحاب الأخدود كفروا وأحرقوا وقَتلوا، وفي النهاية فتح الله لهم مجال التوبة، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[البروج: 10]؛ الله أكبر! فلو تابوا لتغير الأمر، وهم الذين فعلوا ما فعلوا، فما أحلم الله!

 

فإلى مَن كثرت ذنوبه وتعاظم تقصيره، إلى مَن أسرف على نفسه وعصى الله ربه، أيها العاصي: إن كنت أذنبت فلن تبلغ ذنوبك ما فعل أصحاب الأخدود، فأَقْبِل على الله، وأبشر برحمة الله، واعلم أن الأيام تمرّ، وكم من مُسوِّفٍ بالتوبة مضى وما تاب، فأُخِذ بذنوبه وما نفعه تسويفه.

 

ونختم بهذا الدرس الذي يتجلى من هذه القصة. والدرس يقول: إن المرء قد يكون في الدنيا قوياً، فيتجبر على مَن تحته، فليعلم أن من وراءه يوماً تختلف فيه موازين القوة.

 

 ذلك الرئيس الذي يتعالى على موظفيه سيقف أمام القوي -سبحانه-، ذلك الزوج الذي تجبر على زوجته وظلمها سيقف أمام القوي -سبحانه-، ذلك الكفيل الذي ظلم عماله سيقف أمام القوي -سبحانه-، وهناك تتساوى الرؤوس ويقف الضعفاء والأقوياء أمام القوي -سبحانه-.

 

وإذا رأيت إملاء الله للظالم واستبطأت عقوبته فأيقن أن الجزاء مدّخر، إن في الدنيا وإن في الآخرة، وأن وراء الجميع يومًا يُؤخَذ فيه للمظلوم من الظالم.

 

وليعلم الجميع أن كل انسانٍ سيموت فرداً وسيُحْشَر عبداً، وسيُحاسَب بعيداً عن منصبه، وستتجلى له كل أعماله، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

 

تلكم يا كرام إلماحة حول قصة من قصص القرآن، فاللهم وَفِّقْنا لتدبُّره، واجعلنا ممن يتعظون بعظاته.

 

المرفقات

أصحاب الأخدود.doc

أصحاب الأخدود.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات