الاعتبار من آيات الرياح والغبار

الشيخ عايد بن علي القزلان التميمي

2025-06-13 - 1446/12/17 2025-06-22 - 1446/12/26
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/الرياح آية من آيات الله 2/الرياح إما نعمة وإما نقمة 3/من عذبهم الله بالريح من الأمم 4/الريح جند من جنود الله 5/النهي عن سب الريح

اقتباس

لَمَّا أَرْسَلَ هَذِا الْغُبَارَ عَلَيْنَا عَدْلًا مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا-، إنَّمَا أَرْسَلَ جُزْءًا يَسِيرًا لَا يُعَدُّ وَلَا يُذْكَرُ مِنْ جُنْدِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّتِي لَا يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ عَنْ سُرْعَتِهَا الْمُعْتَادَةِ -بِإِذْنِ رَبِّهَا- دَمَّرَتْ الْمُدُنَ، وَهُدَمَتْ الْمَبَانِيَ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي يرسل الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وأنزل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ليحيي بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا، ويُسقيه مِمَّا خَلَقَ أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:

 

فيا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِ وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظِيمِ تَفَرُّدِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى وَعَدِيدَةٌ؛ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)[غافر: 13].

 

عِبَادُ اللَّهِ: وَإِنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْعِظَامِ تَسْخِيرَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِلرِّيَاحِ، وَتَصْرِيفَهُ لَهَا كَيْفَ شَاءَ، فَهِيَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ وَتَسِيرُ بِإِذْنِهِ، فَهِيَ مُسَخَّرَةٌ مُدَبَّرَةٌ مَأْمُورَةٌ، كُلُّ حَرَكَةٍ مِنْهَا بِإِذْنِهِ، وَكُلُّ سَيْرٍ مِنْهَا بِأَمْرِهِ، تَارَةً تَأْتِي مُحَمَّلَةً بِالْبَشَارَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَتَارَةً أُخْرَى تَأْتِي مُحَمَّلَةً بِالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، يَقُولُ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الروم: 46]، ويقول -جلّ وعلا-: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة: 164].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذِهِ الْأَيَّام تَوَالَتْ عَلَى بَعْضِ الْمَنَاطِقِ فِي الْبِلَادِ رِيَاحٌ شَدِيدَةٌ، مَصْحُوبَةٌ بِأَتْرِبَةٍ كَثِيفَةٍ، تَأَذَّى مِنْهَا النَّاسُ وَتَضَرَّرُوا، وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمَّا أَرْسَلَ هَذِا الْغُبَارَ عَلَيْنَا عَدْلًا مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا-، إنَّمَا أَرْسَلَ جُزْءًا يَسِيرًا لَا يُعَدُّ وَلَا يُذْكَرُ مِنْ جُنْدِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّتِي لَا يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ عَنْ سُرْعَتِهَا الْمُعْتَادَةِ -بِإِذْنِ رَبِّهَا- دَمَّرَتْ الْمُدُنَ، وَهُدَمَتْ الْمَبَانِيَ، وَاقْتَلَعَتْ الْأَشْجَارَ، وَصَارَتْ عَذَابًا عَلَى مَنْ حَلَّتْ بِدَارِهِمْ.

 

لَمَّا عَتَا قَوْمُ عَادٍ وَقَالُوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)[فصلت: 15]، أرسل الله عليهم الريح العقيم، فقال -جل وعلا-: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)[الذاريات: 41 - 42]، فَالرِّيحُ الْعَقِيمُ: هِيَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا بَرَكَةَ، وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا وَلَا تَحْمِلُ مَطَرًا، (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، أَيْ: كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ الْبَالِي، وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ -تَعَالَى-: (عَاتِيَةٍ) في قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)[الحاقة: 6].

 

وَاعْلَمُوا -عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ الرِّيحَ يَنْصُرُ اللَّهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)[الأحزاب: 9]، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ"، والصَّبا: هي الريح الشرقية، والدّبُور: هي الريح الغربية.

 

عِبَاد اللَّهِ: كَمَا أَنَّ الرِّيَاحَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ يُسَلِّطُهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَإِنَّهَا أَيْضًا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، يُسَخِّرُهَا لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، قَالَ الْمَوْلَى -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ)[الأنبياء: 81]، وقال -تعالى-: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)[سبأ: 12].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَذَمَّرُ عِنْدَمَا يَرَى الرِّيحَ وَالْغُبَارَ، وَرُبَّمَا تَطَاوَلَ فَسَبَّهَا وَشَتَمَهَا، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ قَالَ: "لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ الرِّيحِ، وخَيْرِ مَا فِيهَا، وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وشرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ"(رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

عباد الله: وتذكروا قول ربنا: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، فاستغفروا الله العظيم الجليل الكريم من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَة لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا الهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: لَا أَجِدُ لَنَا وَعْظًا وَلَا تَذْكِيرًا إلَّا بِكَلَامِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَكَمْ دَعَانَا رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِمَنْ قَبِلْنَا وَبِمَنْ حَوْلَنَا؛ لِنَتَّعِظَ وَلِنَقِفَ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ فَلَا نَتَعَدَّاهَا؛ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)[النمل: 69]، وقال -سبحانه-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الأحقاف: 27]، وقال: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا)[النمل: 52]، وقال: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 97 - 99].

 

عِبادَ اَللَّهُ: إِنَّ اَلْمَطْلُوبَ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ اَلِاعْتِبَارِ، وَنَعْتَبِرَ بِمَا ذَكَرَهُ رَبُّنَا فِي اَلْقُرْآنِ، فَطُوبَى لِأَهْلِ اَلِاعْتِبَارِ؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق: 37].

 

هذا، وصلوا وسلموا على سيد البشرية، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

 

المرفقات

الاعتبار من آيات الرياح والغبار.doc

الاعتبار من آيات الرياح والغبار.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات