الشكر

د. منصور الصقعوب

2025-09-19 - 1447/03/27 2025-10-06 - 1447/04/14
عناصر الخطبة
1/كثرة نعم الله على خلقه 2/معنى الشكر وأهميته 3/الشكر سبب بقاء النعم وزيادتها 3/وجوب شكر المنعم 4/ كيف نشكر الله تعالى؟ 5/أقسام الشكر.

اقتباس

مَن أحق بالشكر غيرُ الله؟! وهو مُسْبِغ الإفضال، ومُعِيد النعم، وما بنا من خيرٍ فمنه وحده لا شريك له. هو ربنا يُؤَمِّن بعد خوف، ويُطمئِن بعدَ قلق وحَيْرة، ويُفرِّج الهموم بعد غمٍّ وكرْب، ويَشرح الصدورَ ويَهدي القلوب ويُحرِّر بعد استعباد، ويُعِزّ بعد ذِلَّة، ويُذِل بعد عزة. تفكّر فيما أعطاك ربك لتشكره؛ صحةٌ في بدن، أمنٌ في وطن، غذاءٌ وكساء،...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله خلق الخلق، وبالعدل حكم، مرتجى العفو ومألوهَ الأمم، كل شيءٍ شاءه ربُّ الورى، نافذُ الأمرِ به جف القلم.

 

لك الحمد ربي.

من ذا الذي يستحق الحمد إن طرقت *** طوارقُ الخير تُبدي صنعَ خافيه

إليك يا ربِّ كلُ الكونِ خاشعةٌ *** ترجو نوالك فيضاً من يدانيه

 

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، أسلم له من في السماوات والأرض طوعًا وكَرْهًا، وإليه يرجعون، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

عباد الله: لو أن أحداً أنعمتَ عليه بنعمة، وتفضَّلت عليه بأمر، أنقذته من محنة أو أكرمته بعطية، ثم ينسى معروفَك، ويجحدُ إحسانَك، ولا يشكرك، لعدّه الناس جاحداً، ولقطعت عنه أيَّ إحسانٍ لاحقاً، هذا في العباد، فما الشأن في رب العباد.

 

أجل يا كرام، فها نحن نتقلب في نعمٍ ليس لها حدّ، وإفضال ليس له عدّ، فما نصيب الشكر منا لخالقنا وربِّنا؛ أمنٌ وأمان، ونعمٌ وارفة، وخيراتٌ وافرة، وأمطار واستقرار، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ: 15]، ونعم تستوجب منا الشكر، فدعونا نتذاكر في هذه الخطبة الشُكر وكيف يكون.

 

الشكرُ -يا كرام- هو ظهورُ أثر نعمةِ اللّه على لسان عبده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبّة، وعلى جوارحه انقياداً.

 

الشكر أحدُ مسارين قال عنهما ربنا (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[الإنسان: 3]؛ فإما شكرٌ وإما كفرٌ.

 

الشكر طريقُ بقاء النعم وزيادتها، وتركه طريق حبسها وترحُّلِها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]؛ قال بعض السلف: "النعم وحشيةٌ فقيدوها بالشكر".

 

وقال الحسن: "إن الله ليُمتِّع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يُشكَر عليها قلبها عذاباً، ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب، لأنه يجلب النعم المفقودة".

 

الشكر أمانٌ من العذاب، وحماية من العقاب؛ (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[النساء: 147]؛ قال قتادة: "إن الله -جل ثناؤه- لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا".

 

ربك -يا مؤمن- حين يُتابِع النعم على عبده، فإنه يرضى منه أن يشكره، وفي الحديث "إن الله ليرضى عن العبد؛ أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".

 

ربك -يا موفق- يجزي الشاكرين بشكرهم، (وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)، (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 145]؛ قال ابن كثير: "أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم".

 

والشكر يا كرام: صفة الباري، فهو الشكور -سبحانه-، يشكر عباده، ومِن شُكره أنه لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، ويشكر القليل من العمل الخالص وهو مَن وفَّقهم له، بل يضاعفه أضعافًا مضاعفة، ويعفو عن الكثير من الزلل.

 

ومِن شكره أنه يعطي بالعمل في أيام معدودة نعيما في الآخرة غير محدود؛ (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الحاقة: 24]، (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 34].

 

والشكر صفة المرسلين المصطفين، فنوحٌ قال عنه ربه (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)، وإبراهيمُ قال عنه مولاه (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[النحل: 121]، وسليمانُ قال عنه الله (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)[النمل: 19].

 

أما نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فهو سيد الشاكرين، حدَّثت عنه عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً".

 

يا كرام: مَن أحق بالشكر غيرُ الله؟ وهو مُسْبِغ الإفضال، ومُعِيد النعم، وما بنا من خيرٍ فمنه وحده لا شريك له.

 

هو ربنا يُؤَمِّن بعد خوف، ويُطمئِن بعدَ قلق وحَيْرة، ويُفرِّج الهموم بعد غمٍّ وكرْب، ويَشرح الصدورَ ويَهدي القلوب ويُحرِّر بعد استعباد، ويُعِزّ بعد ذِلَّة، ويُذِل بعد عزة.

 

تفكّر فيما أعطاك ربك لتشكره؛ صحةٌ في بدن، أمنٌ في وطن، غذاءٌ وكساء، وهواءٌ وماء، لديك الدنيا وأنت لا تشعر، تملك الحياة وأنت لا تعلم؛ (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان: 20].

 

عندك عينان، ولسان وشفتان، ويدان ورجلان (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)[الرحمن: 13]؛ أنت تمشي على قدميك، وقد بُتِرت أقدام؟! وأنت تعتمد على ساقيك، وقد قُطِعَتْ سوقٌ؟! أنت تنام ملء عينيك وقد أطار الألمُ نومَ الكثير؟! وأنت تستلذ بالطعام الشهي والماء البارد، وهناك من تعكر عليه الطعام، وتنغص عليه الشراب بأمراض وأسقام؟!

 

تفكّر في سمعك وقد عُوفيت من الصمم، وتأمل في نظرك وقد سلمت من العمى، وانظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام، بل المح عقلك وقد أنعم الله عليك بحضوره ولم تُفجَع بالجنون والذهول، أتريد في بصرك وحده كجبل أحدٍ ذهبًا؟! أتحب بيع سمعك بوزن جبل من فضة؟! هل تشتري قصور الأرض بلسانك فتكونَ أبكم، أو بيديك لتكون أقطع؟

 

إنك في نعمٍ عميمة وأفضالٍ جسيمة، ولكنك لا تدري، تعيش مهموماً مغموماً حزيناً كئيباً! وعندك الملبس الدافئ، والماء البارد، والنوم الهانئ والعافية الوارفة.

 

تتفكر في المفقود ولا تشكر الموجود، تنزعج من خسارة مالية وعندك مفتاح السعادة، ومن القناطير مقنطرةً من الخير والمواهب والنعم والأشياء.

 

فكر في نفسك، انظر إلى قلبك، إلى الجهاز التنفسي، إلى المخ، المريء، الكبد، الأمعاء، الأعصاب، الشرايين، وغيرها كثير، وردد: يا رب

أوليتني نعماً أبوح بشكرها *** وكفيتني كل الأمور بأسرها

فلأشكرنك ما حييتُ وإن أمت ***  فلتشكرنّك أعظمي في قبرها

 

اللهم أوزعنا أن نشكر نعمك، وأعننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...

 

عباد الله: وقد آن لنا أن نتساءل كيف نشكر الله؟

وهنا نقول بأن أعظم بابٍ للشكر استجابةُ العبدِ لأوامر ربه، فيمتثل أمره، وينتهي عما نهى، فالشكرُ لا يكون بالقول فحسب، بل الفعلُ شكر، وفي التنزيل (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[سبأ: 13].

 

فليس بشاكرٍ من تروح عليه النعم وتجي، وهو يبارز ربه بالذنوب في الغداة والعشي، فكيف نعصيه ونحن في أرضه، ونتقلب في نعمه، ونأكل من رزقه؟ إن هذا لذنب عظيم.

 

ليس من شكر النعم أن نُشيِع المنكرات، وأن نغشى أماكن الزور والمحرمات، وإن ذلك نخشى معه من ارتحال الخيرات.

 

يا مؤمن: والشكرُ يكون بالقلب، حين ننسب النعمَ لمسديها وهو الله، ومِن أخطر ما يكون في النعم أن تنسبها لمخلوق، وتعدَه ولي نعمتك، وتنسب له الفضل في المعروف لك، ولعمر ربي فما المخلوق إلا سببٌ، والرزاق هو الله، ولو اجتمع من بأقطار الأرض على أن يمنعوك ما الله أراد إنفاذه؛ ما قدروا، أو يمنحوك ما أراد الله منعه؛ ما استطاعوا، فَلِمَ تنسب نِعَمك لغير مُنعِمها، وهو الله.

 

يا كرام: وبعد شكر القلبِ الشكرُ باللسان، بحمد ربنا وشكره، وهي أحرف يسيرة، ولكن ربنا يحبها، وهي شيء من واجبنا تجاه النعم، وفي القرآن (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)[الزمر: 7]، (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الزمر: 66].

 

عباد الله: والشكر يكون كذلك بالقناعة فيما أعطانا، وفي الخبر المروي "كن قَنِعاً تكن أشكر الناس"، وفي الصحيح: "قد أفلح مَن أسلم ورُزِقَ كفافاً، وقنَّعه الله بما أعطاه".

 

كم من عبدٍ عنده من النعم الكثير، ثم تراه يتبرم من نعمة واحدةٍ ترحلت عنه، أو أمرٍ ناله غيرُه ولم يتيسر له، فأين الرضا بقسمة الله؟ وأين القناعةُ بما أعطاك؟ ولو نظرت لمن هو دونك، لرأيت أنك أفضلَ من ملايين من الناس.

 

وقد دخل رجلٌ على آخر ابتلاه الله بالعمى وقطع اليدين والرجلين، فوجده يشكر الله، ويقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً. فتعجب الرجل من قوله وسأله: على أيّ شيء تحمد الله وتشكره؟ فقال له: "يا هذا، أَشْكُرُ الله أن وهبني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا وبدنًا على البلاء صابرًا".

 

عباد الله: ونشكر الله بالدعاء، ومن جوامع الأدعية ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين قال له: "يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".

 

ونشكره بأداء سنة الضحى، فهي شكر الجوارح، وفي ذلك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى".

 

وبعد: فبالشكر تدوم النعم، وبالشكر يرضى المنعم، وبالشكر نؤدي عبودية السراء، وقد قال علي –رضي الله عنه-: "احذروا نفار النعم، فما كلُ شاردٍ مردود".

 

فاللهم أدم النعماء....

 

المرفقات

الشكر.doc

الشكر.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات