عناصر الخطبة
1/لمحة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 2/وصية عظيمة محفوظة 3/ تأملات في الوصايا القرآنية العشر 4/توحيد الله تبارك وتعالى أعظم الأعمال 5/التحذير من الشرك.اقتباس
التوحيدُ ليس كلمةً تُقال، ولا شعاراً يُردد، ولا نسبةً مجردة عن محتواها، التوحيد أن يمتلئ قلب العبد تعظيماً لربه، وتوجهاً إليه، التوحيد منهج حياة يقتضي أن لا يَصرف العبدُ أيّ عبادةٍ قلبيةٍ وقوليةٍ وفعليةٍ إلا له وحده؛ لأن ربه هو المستحق لا سواه...
الخُطْبَة الأُولَى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
لئن سبق الحديث عن وفاة أعظم البشرية وسيد الخليقة -عليه السلام-، فإن ثمة حدثاً وقع قبل وفاته؛ ففي لحظة من هذه لحظات مَرضه أراد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن يترك بين يدي الأمة كتاباً يكتبه لها، لا تضلّ الأمةُ بعده أبداً، أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوصي الأمة بوصيةٍ تحفظ عليها مسارها.
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما اشتد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وجعُه قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تختلفوا بعده"، فلما همّوا بذلك نظر عمر فوجد النبي في غاية الإعياء، ورأى أن لا يشقوا عليه، فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللَّغط، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: "قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع".
فمات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولم يكتب ذلك الكتاب، وهذا من شؤم الاختلاف، قال ابن حجر: "وَفِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَاف قَدْ يَكُون سَبَبًا فِي حِرْمَان الْخَيْر، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّة الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا فَرُفِعَ تَعْيِين لَيْلَة الْقَدْر بِسَبَبِ ذَلِكَ".
حزن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل فوات هذه الوصية، لكنّهم وهم الفطناء علموا أنه -صلى الله عليه وسلم- أوصى بوصية عظيمة محفوظة إلى أن تقوم الساعة لا تتبدل ولا تتغير، نعم نظروا فوجدوا عِوض تلك الوصية التي فقدوها في كتاب الله.
روى الترمذي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه"، أي: التي كُتِبت وخُتِمَ عليها فلم تُغيَّر ولم تُبدل، فليقرأ قوله -تعالى-: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام: 151- 153].
فدعونا نقف مع هذه الوصايا القرآنية العشر، التي أوصى بها ربنا عباده؛ حيث قال: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ)؛ أي أمركم به وأكّد عليكم فيه، ثم أخبر ابن مسعود أنها وصية خير البرية لهذه الأمة، فهي وصايا حريّ بنا أن نتأملها ونطّبقها
ابتدأت الوصايا بالأمرِ بتوحيد الله -جلّ في علاه-، والأمرِ بإفراده بالعبادة، (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) لا قليلاً ولا كثيراً، ولا تصرفوا للمخلوق شيئاً من خصائص الربوبية والإلهية، وإذا ترك العبدُ الشركَ كله صار مُوحِّداً مخلصاً لله في جميع أحواله، فهذا يا كرام آكدُ الحقوق وأعظمها وأولها.
لم تكن هذه وصية الله ووصية محمد -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل وصيةُ كُلِّ نبي إلى قومه ورسولٍ إلى أمته؛ فدعوةُ الأنبياء والرسل على مدى التاريخ كانت تستهدف رَدّ البشريةِ الضالَّةِ إلى ربها، وهدايتَها إلى طريقه، وتربيتَها على منهاجه، وإخراجَها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلمات الشرك والإلحاد إلى أنوار التوحيد والإيمان، وتزكيةَ نفوسِ أبنائها وتهذيبَ أخلاقهم.
وكانت نقطةُ البدء على هذا الطريق ولبنةُ الأساسِ الأول لهذا التصحيح الكبير هي دعوةُ الناس إلى التوحيد الشامل، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، إلى العقيدةِ الصحيحة الصافية، ولذا كانت أول دعوة لكل نبي ورسول: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطاغُوتَ)[النحل: 36].
بدأ بها نوحٌ -عليه السلام-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)[هود: 25- 26].
وبدأ بها هودٌ -عليه السلام-: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ)[هود: 50].
وبدأ بها صالحٌ -عليه السلام-: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[هود: 61]؛ وهكذا (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25].
إلى آخر الرسل الكرام محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-؛ حيث ظل يدعو إليها في مكة ثلاثة عشر عاماً كاملة لا تزاحمها في اهتمامه قضيةٌ أخرى، بل لما انتقل إلى المدينة لم يدعْ -صلى الله عليه وسلم- قضية التوحيد، بل دعا للتوحيد ودعا إلى غيره، فإن التوحيد ليس مرحلةً زمنية تنتهي بل مَهمة كل مرحلة.
التوحيدُ ليس كلمةً تُقال، ولا شعاراً يُردد، ولا نسبةً مجردة عن محتواها، التوحيد أن يمتلئ قلب العبد تعظيماً لربه، وتوجهاً إليه، التوحيد منهج حياة يقتضي أن لا يَصرف العبدُ أيّ عبادةٍ قلبيةٍ وقوليةٍ وفعليةٍ إلا له وحده.
لأن ربه هو المستحق لا سواه، فهو الخالق الرازق، هو المدبّر المتصرف، هو الذي له الصفات العلى، فلا يوجد أحدٌ غيره لا بشرٌ ولا جماد يستحق عبادة إلا هو.
وبرغم أهمية هذه الوصية يا كرام، إلا أن كل ناظرٍ لواقع المسلمين اليوم يُوقن بلا مِراء أن ثمة طوفاناً من مناقضات وصية الله ووصية رسوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)؛ طوافٌ بأضرحة، وتعظيم لأموات، وذبحٌ ونذر لهم، وحلفٌ بأشخاص غيرِ الله، وتعليقٌ لتمائمَ وخيوط، وتوسعٌ في الكهانة، وتساهل بالسحر والشعوذة، وغير ذلك، رجاءٌ لغيره، وخوفٌ من سواه، وتوكلٌ على غيره. وكل هذه تناقض الوصية الربانية (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا).
وهل يليق بامرئ عرف الله بنعمه، وتعرَّف على خالقه بأسمائه وصفاته، وبأنه مَن أوجد وخلق وتفضل ورزق، أن يلتفت بقلبه وفعله لغيره وهو خالق الأكوان ورازق الإنسان؟
لذا يا كرام: كم نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا أولاً تجاه هذه الوصية، وأن نبرأ من كل صور الشرك صغيره وكبيره.
والعارفون يخافون على أنفسهم من الخلل، والربانيون يذكّرون بالتوحيد دائماً، وإبراهيم -عليه السلام- قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم: 35]؛ فمن يأمن البلاء بعد إبراهيم، وما أحرى المرء إلى أن يعرض نفسه على خصال دينه، وتوحيدَه على نواقضه، وينظرَ هل سلم منها أو هو واقع؟
وإذا كنا نبحث عن طمأنينة الحياة، ورضا الله، وجنةِ الدنيا والآخرة فذاك بالتوحيد، وقد قال ابن القيم: "مَا دُفِعَتِ شَدَائِدُ الدُّنْيَا بِمثْلِ التَّوحِيدِ". اللهم حقِّق في قلوبنا التوحيد ووفّقنا له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده.
إذا كان ما مضى هو في الشرك الظاهر، فثمة شركٌ خفي، يقع فيه المرء وهو لا يشعر أنه متلبس به، ويُقارِفه وهو لا يعترف به، حين يتعبد في الظاهر لمولاه، وهو في الباطن يقصد بذلك خلق الله، وهو الرياء.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال عندي؟» قال أبو سعيد: قلنا: بلى، قال: «الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فَيُزِيِّنُ صلاته لما يرى من نظر رجلٍ إليه».
قد يعمل الصالحات العظيمة من إنفاق وعلم بل وجهاد، بل وقد تُزهَق روحه في ذلك، ولكنه يتطلب بذلك مدح الناس وثنائهم، والله عزيز، ومِن عزته أنه لا يقبل عملاً أشرك فيه معه غيره، وفي الصحيح: "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عَمِلَ عَمَلاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
وفي الحديث: يقول اللهَ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: "اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟".
وماذا إذا أثنى عليك الناس؟ لو مدحك كل أهل الأرض، والله سخط عليك، على أيّ شيء تحصلت، ثم بعد أيام وشهور سينسى المادحون، وبعد سنوات سترحل ويرحلون، ويبقى كلٌّ في قبره، ولن يُذكَر في السماء وفي الأرض إلا مَن أخلص لله عمله، وسينسى الناس المرائين.
وقد قرأ سفيان الثوري قوله -تعالى-: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47]؛ فقال: "ويل لأهل الرياء! ويل لأهل الرياء! هذه آيتهم وقصتهم".
كل هذا يا مُوفَّق يُحتِّم عليك أن تراجع نيتك عند كل عمل، أهو لله، أم لغيره، كي تسلم من هذا الداء الخفي.
وبعد: فكم نحتاج إلى دعوة شاملة لتصحيح الاعتقاد، ولتعبيد الناس لله، ونَبْذ كل أمرٍ من الشركٍ صغيره وكبيره، جليّه وخفيه، وابدأ يا مبارك ببيتك وبمن حولك، ولينطلق الدعاةُ في كل مكانٍ دعاة لهذا الأصل العظيم الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً -رضي الله عنه- أن يكون أول ما يدعو إليه.
والذي لو حققناه فعلاً وملأنا الأرض دعوة للتوحيد، ونبذاً للشرك، لَسُدْنَا الأرض، ولتحقق لنا الأمن التام، في الدنيا والآخرة.
هذه يا كرام أعظم الوصايا العشر في هذه الآيات، وبقية الوصايا هي مجال الحديث لاحقاً إن شاء الله
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم