عناصر الخطبة
1/إرسال الله موسى وهارون إلى فرعون 2/حوار موسى مع وفرعون وعناده 3/التحدي بين موسى والسحرة وإيمانهم 4/خروج بني إسرائيل من مصر ونجاتهم وغرق فرعون 5/صوم موسى يوم عاشوراء شكراً لله واقتداء نبينا بهاقتباس
الْمَشْهَدُ الْآنَ -وَنَحْنُ نَتَخَيَّلُ أَنْفُسَنَا فِي ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ- مَا زَالَتِ الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ، وَتَمُرُّ السَّنَةُ تِلْوَ السَّنَةِ وَمَا زَالَ الْعَذَابُ يَشْتَدُّ وَالْمُحَارَبَةُ تَزْدَادُ، مُوسَى يُذَكِّرُ قَوْمَهُ وَيُثَبِّتُهُمْ وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَفَاتِيحِ النَّصْرِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد: تَعَالَوْا لِنُحَلِّقَ سَوِيًّا إِلَى الْمَاضِي السَّحِيقِ، إِلَى مَا قَبْلَ آلَافِ السِّنِينَ، وَنُقَرِّبَ الصُّورَةَ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ الطَّيِّبَةِ، إِلَى حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ يَرْعَدُ وَيُزْبِدُ، إِلَى حَيْثُ كَانَ فِرْعَوْنُ، فِرْعَوْنُ صَاحِبُ الْجَاهِ وَالسُّلْطَانِ، فِرْعَوْنُ صَاحِبُ الْمُلْكِ وَالْمَالِ، كُلُّ مَنْ فِي مِصْرَ يَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ وَيَنْتَهِي بِنَهْيِهِ، وَفِي أَوْجِ هَذَا الْمُلْكِ وَهَذِهِ السَّطْوَةِ يَبْعَثُ اللهُ مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-؛ (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)[طه: 43].
يَتَلَقَّيَانِ هَذَا الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ وَهُمَا مُسْتَحْضِرَانِ ذَلِكَ الْجَبَرُوتَ وَالطُّغْيَانَ، فَيُعَبِّرَانِ عَنْ مَشَاعِرِهِمَا الْبَشَرِيَّةِ؛ (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى)[طه: 45]، وَلَا عَجَبَ فِي صُدُورِ ذَلِكَ مِنْهُمَا؛ فَفِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قُوَّةٌ لَا يُسْتَهَانُ بِهَا وَلَا تَزَالُ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى الْيَوْمِ تَتَعَجَّبُ مِنْ مَظَاهِرِهَا، فَإِذَا بِالرَّدِّ يَأْتِي مِنَ اللَّهِ: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46]، فَإِنْ كَانَ فِرْعَوْنُ مَعَهُ الْمَلَأُ وَالْجُنْدُ فَأَنْتُمْ مَعَكُمُ اللَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى، وَإِنْ كَانَ فِرْعَوْنُ يَتَغَلَّبُ عَلَى النَّاسِ بِالْعِدَّةِ وَالْعَتَادِ فَأَنْتُمْ مَعَكُمْ رَبُّ الْعِدَّةِ وَالْعَتَادِ، وَالْغَلَبَةُ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ الَّذِي يَنْصُرُونَ دِينَهُ؛ (بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ)[القصص: 35].
تَبْدَأُ أَوَّلُ مُوَاجَهَاتِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ الْحِوَارُ الْمَشْهُودُ، مُوسَى يَعْرِضُ الْبَرَاهِينَ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ، يَسْتَمِعُ فِرْعَوْنُ لِلْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، فَيَظْهَرُ أَوَّلُ خَوَارٍ لِلْبَاطِلِ، هَا هُوَ فِرْعَوْنُ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُوَاجِهُ بِهِ الْحَقَّ فَيَلْجَأُ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ)[الشعراء: 25]، وَيَكِيلُ بِالِاتِّهَامِ (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)[الشعراء: 27]، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى التَّهْدِيدِ (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 29].
يُحَافِظُ مُوسَى عَلَى نُقْطَةِ قُوَّتِهِ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي مَعَهُ، فَيُرِيهِ مَا مَعَهُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْعَصَا وَالْيَدِ، فَلَا يُقِرُّ لَهُ فِرْعَوْنُ بِذَلِكَ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ التَّحَدِّي؛ (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى)[طه: 58]، يَسْتَعِدُّ مُوسَى لِلتَّحَدِّي وَثِقَتِهِ بِاللَّهِ، وَيَحْضُرُ فِرْعَوْنُ الْمَوْعِدَ وَثِقَتِهِ بِجُنْدِهِ وَسَحَرَتِهِ، حِزْبُ الْحَقِّ يَتَكَوَّنُ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَحِزْبُ الْبَاطِلِ جُمُوعٌ لَا حَصْرَ لَهَا يَقُودُهُمْ فِرْعَوْنُ وَسَحَرَتُهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ يُقْلِقُهُمْ هَذَانِ الرَّجُلَانِ، فَيَكِيلُونَ لَهُمَا سَيْلًا مِنْ كَلِمَاتِ التَّخْوِينِ وَالتَّشْوِيهِ خَوْفًا مِنْهُمَا، بَلْ مِمَّا عِنْدَهُمَا مِنَ الْحَقِّ؛ (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى)[طه: 63 - 64].
يَبْدَأُ التَّحَدِّي؛ (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)[طه: 65- 66]، يُشَاهِدُ مُوسَى ذَلِكَ الْمَوْقِفَ فَيَسِيطِرُ عَلَيْهِ الضَّعْفُ الْبَشَرِيُّ؛ (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)[طه: 67]، فَتَتَدَخَّلُ الْمَعِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الَّتِي وَعَدَهُ رَبُّهُ؛ (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)[طه: 68 - 70].
وَهُنَا! حَدَثَتِ الْمُفَاجَأَةُ! مُفَاجَأَةٌ قَاتِلَةٌ لِفِرْعَوْنَ وَسَارَّةٌ لِمُوسَى، أَمَّا فِرْعَوْنُ فَلَعَلَّ أَقْصَى مَا كَانَ يَخَافُهُ هُوَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِمُوسَى ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ وَعَوَامُّهُمْ، أَمَّا السَّحَرَةُ فَهَؤُلَاءِ مَنْ رَبَّاهُمْ عَلَى يَدِهِ، فَهُمْ طَوْعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَمَلُهُ وَعُدَّتُهُ وَهُمُ الَّذِينَ أَلْقَى عَلَيْهِمْ كُلَّ ثِقَتِهِ فِي هَزِيمَةِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَأَمَّا مُوسَى فَلَعَلَّهُ مَا خَطَرَ فِي بَالِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ أَوَّلَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ كُفْرًا وَأَطْوَعُهُمْ لِفِرْعَوْنَ وَسُلْطَانِهِ!.
جُنَّ جُنُونُ الطَّاغِيَةِ، وَكَمَا هِيَ عَادَتُهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ؛ (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)[طه: 71].
وَفِي لَحْظَةٍ، انْقَلَبَ السَّحَرَةُ إِلَى مُؤْمِنِينَ بَرَرَةٍ، وَحِينَ يُخَالِطُ الْإِيمَانُ الْقَلْبَ فَلَا تَسَلْ عَنْ لَهْجَةِ الصِّدْقِ وَفُتُوحَاتِ الرَّبِّ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَطَةُ مُجَرَّدَ لَحَظَاتٍ؛ (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 72 - 73]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "كَانُوا سَحَرَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَشُهَدَاءَ آخِرِ النَّهَارِ حِينَ قُتِلُوا".
فِرْعَوْنُ بِتَحْرِيضٍ مِنَ الْمَلَأِ يَزْدَادُ فِي طُغْيَانِهِ، وَيُصْدِرُ الْأَوَامِرَ لِمَزِيدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ؛ (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)[الأعراف: 127]، وَبِذَلِكَ -كَمَا فِي الظَّاهِرِ- يَخْلُو الْجَوُّ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ، فَهُمْ فَوْقَ أَهْلِ الْحَقِّ قَاهِرُونَ، فِرْعَوْنُ كَلَامُهُ هُوَ الْمَسْمُوعُ وَأَمْرُهُ هُوَ الْمُطَاعُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ فَمُحَارَبُونَ مُطَارَدُونَ، لَا تُسْمَعُ لَهُمْ كَلِمَةٌ، وَلَا يُقَرُّ لَهُمْ قَرَارٌ.
يُؤَكِّدُ فِرْعَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى فَيُصْدِرُ مَزِيدًا مِنَ الْخِطَابَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَنَعَةِ مَعَ مَزِيدٍ مِنَ التَّشْوِيهِ لِمُوسَى؛ (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)[الزخرف: 51 - 54].
وَرُغْمَ هَذِهِ السَّيْطَرَةِ الْكَامِلَةِ عَلَى الْمَشْهَدِ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّ مُوسَى لَا يَزَالُ يُقْلِقُهُ؛ لِعِلْمِهِ بِقُوَّةِ الْحَقِّ الَّذِي مَعَهُ، فَيَسْتَمِرُّ فِرْعَوْنُ فِي الْمَزِيدِ مِنْ حَمَلَاتِ التَّخْوِينِ وَالِاتِّهَامِ؛ (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[غافر: 26]، وَإِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ! أَرَأَيْتُمْ ذَلِكَ الْحَقَّ الصَّافِيَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى؟! هُوَ فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَلِلْأَسَفِ مَا زَالَ أَتْبَاعُهُ يُصَدِّقُونَهُ؛ (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)[الزخرف: 54].
الْمَشْهَدُ الْآنَ -وَنَحْنُ نَتَخَيَّلُ أَنْفُسَنَا فِي ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ- مَا زَالَتِ الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ، وَتَمُرُّ السَّنَةُ تِلْوَ السَّنَةِ وَمَا زَالَ الْعَذَابُ يَشْتَدُّ وَالْمُحَارَبَةُ تَزْدَادُ، مُوسَى يُذَكِّرُ قَوْمَهُ وَيُثَبِّتُهُمْ وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَفَاتِيحِ النَّصْرِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ؛ (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف: 128]، فَبِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ مَعَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى سَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَكُمْ يَا أَهْلَ الْحَقِّ.
تَخُورُ بَعْضُ الْقُوَى وَتَكْثُرُ الشَّكَاوَى مِنْ غَلَبَةِ الْبَاطِلِ؛ (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)[الأعراف: 129] فَيُذَكِّرُهُمْ مُوسَى بِأَنَّ الْغَلَبَةَ لَهُمْ وَالْخِزْيَ لِأَعْدَائِهِمْ وَإِنَّمَا النَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ؛ (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 129]، وَتَسْتَمِرُّ الْوَصَايَا مِنْ مُوسَى لَهُمْ؛ (وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 84 - 87].
يَأْخُذُ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْوَصَايَا، يَصْبِرُونَ تِلْكَ السِّنِينَ الْعِجَافَ، مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، مُتَوَكِّلِينَ عَلَى رَبِّهِمْ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالنَّجَاةِ، وَاثِقِينَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وَفِي لَحْظَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ، بَيْنَمَا كَانَ الْهُدُوءُ يَعُمُّ مِصْرَ وَأَرْجَاءَهَا، يَأْتِي الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى؛ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)[الشعراء: 52 - 56].
يَشْتَدُّ الْمَسِيرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْلِّحَاقُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ الْبَحْرِ، الْبَحْرُ مِنْ أَمَامِهِمْ وَجُنْدُ فِرْعَوْنَ مِنْ خَلْفِهِمْ؛ (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء: 61]، فَنَطَقَ الْكَلِيمُ بِمَا وَهَبَهُ رَبُّهُ مِنْ إِيمَانٍ وَثِقَةٍ بِنَصْرِهِ؛ (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء: 62- 63].
ثُمَّ حَصَلَتِ النِّهَايَةُ (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[يونس: 90 - 92].
إِيْهِ يَا فِرْعَوْنُ! أَيْنَ مُلْكُكَ؟! أَيْنَ جُنْدُكَ؟! أَيْنَ الْأَنْهَارُ الَّتِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِكَ؟! (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان: 25 - 29]، أَيْنَ زَهْوَةُ بَاطِلِكَ؟! أَيْنَ مُحَاوَلَاتُكَ الْبَائِسَةُ لِإِخْمَادِ صَوْتِ الْحَقِّ؟! أَيْنَ كَيْدُكَ وَمَكْرُكَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ؟!.
اخْرَسْ يَا فِرْعَوْنُ فَوَاللَّهِ مَا لَكَ مِنْ إِجَابَةٍ؛ (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81]، وَأَنْتُمْ -أَيُّهَا الْأَتْبَاعُ- هَلْ نَفَعَكُمْ سَيِّدُكُمْ فِي الدُّنْيَا؟! أَمْ سَيُدَافِعُ عَنْكُمْ فِي الْآخِرَةِ؟! (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)[هود: 96 - 99].
وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ فَهَنِيئًا لَكُمْ بِمَا أَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ؛ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 137].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ)[غافر: 37]، حَصَلَ النَّصْرُ الْمُبِينُ فِي يَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ مُحَرَّمٍ، فَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَغْرَقَ أَعْدَاءَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ صَامَهُ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نَصْرِهِ، ثُمَّ صَامَهُ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْتِدَاءً بِمُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَقَدْ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ لِمَا لَهُ مِنْ الْمَكَانَةِ، وَقَالَ فِي فَضْلِهِ: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"، فَحَرِيٌّ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى صِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ؛ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ النَّصْرِ الْعَظِيمِ، وَطَمَعًا فِي الثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَصُومَ الْمُسْلِمُ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ"، وَيَجُوزُ صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمًا وَاحِدًا فَقَطْ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ صِيَامُ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ.
اللهم وفقنا لما تحبُّ وترضى، وخذ بناصيتِنا للبرِّ والتقوى، اللهم وفقنا لطاعتِك وجنبنا معصيتَك
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم كن لهم مؤيدا ونصيرا، وظهيرا ومعينا، ربنا أفرغ عليهم صبرا، وثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الكافرين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم