خطبة التوحيد

الحمد اللهِ الوَاحدِ الأحَدِ ، الصَّمدِ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ، ولم يكنْ له كُفوًا أحد. أَحْمَدُهُ سُبحانَهُ وتعالى مَنَّ علينا وأعطَانا وأطعَمَنا وسقَانا ومِن كُلّ خَيرٍ سَألنَاه أعطَانا ، فلَهُ الحمدُ ولهُ الشُّكرُ وحدَهُ. وأشهدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلكُ لا نِدَّ لَهُ ، والوَاحدُ لا شريك لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليه ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسَلَّم تسليمًا كثيرًا ، أَمَّا بَعْدُ :
فأوُصِيكم ونَفْسِي يا عبادَ اللهِ بتقوى ربكم ، فَاتَّقُوه يُعْظِمْ لَكُم أجرًا .
أيُّهَا المصَلٌون : أفتُوني في رَجُلٍ عندَهُ جَوْهرةٌ نَفِيسَةٌ لا تُقَاسُ بالأثمانِ ، ثم تَرَك هذِهِ الْجَوْهَرةَ بِلا رِعَايةٍ ولا عِنَايَةٍ ولا حِفْظٍ ، ماذا سَتَقُولُون عَن هذَا الرَّجُلِ ؟ أليسَ رَجُلًا لا يَفْهَمُ ؟! أليسَ رَجُلًا لَا يَعْبَأُ بأموره وشأنه ؟!.
فَبِرَبّكُم مَن كانَ عندَهُ أعزٌّ مِن الجوَاهِرِ وأثْمَنُها وأحسَنُها ؛ مَن كانَ عندَهُ توحيدُ ربّهِ ، فإنَّ الوَاجِبَ عليه أنْ يُحافِظَ عليه ؛ لأنَّهُ أغْلَى مِن الجوَاهِرِ وأغَلَى مِن الدُّرَرِ .
أيُّهَا الْمُوَحّدُون : يَبْحثُ كثيرٌ مِن البَشَرِ عَن السَّعَادَةِ والاستِقْرَارِ فَظَنَّ ظَانٌّ أنَّها بالمالِ ، وظَنَّ آخرُون أنَّها بالمنصبِ ، وجَمْعٌ رآها بالإغرَاقِ بالشَّهَوَاتِ ، ولَكِن الحقِيقَة هِيَ أنَّهُ لا يَرْتَفِعُ عن النُّفُوسِ الشَّقَاءُ والاضْطِرَابُ ، ولا يَذهَبُ عَن الصُّدُورِ القَلًقُ والْحَرَجُ ، إلا حينَمَا تُسَلِّمُ العُقُولُ بأنَّ اللهَ جلَّ في عُلاه هو الواحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي له الْمُلكُ كُلُّهُ ، وبيدِهِ الأَمْرُ كُلُّهُ وإليه يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلَّهُ .

ويَعنِي ذلك إفرادُ اللهِ بالتَّوحِيدِ ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا)).
عبادَ اللهِ : تَوحِيدُ اللهِ مَعْنَاهُ العُبُودِيَّة التَّامَّةُ للهِ وحدَهُ تحقيقٌا لكلمة " لا إلَهَ إلا اللهُ ، محمدٌ رسولُ اللهِ " . أَيْ : شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ.
هذِهِ الكلِمَةُ العَظِيمَةُ الَّتي قامَتْ عليها السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ ، هذِهِ الكَلمَةُ العَظِيمةُ مِن أَجْلِها عَادَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهم ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ).
" لا إلَهَ إلا اللهُ " كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ ، قالَ مُوسى لِرَبِّهِ : " يَا ربّ عَلّمِني شيئًا أَذْكُرُك وأدْعُوك بهِ ، قالَ : قلْ يَا مُوسى : لا إلَهَ إلا اللهُ ، فقالَ مُوسى : يَا رَبِّ ، كُلِّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذِهِ الكَلِمَة ، فقَالَ اللهُ : يا مُوسى ، لو أنَّ السَّمَاواتِ السَّبْعَ والأَرَضِينَ السَّبعَ وعَامِرُهُنَ غَيرِي في كِفَّةٍ ، ولا إله إلا اللهُ في كِفَّةٍ ، لمالَتْ بَهِنَّ لا إلَهَ إلا اللهُ ".
" لا إلهَ إلا اللهُ " كَلمَةٌ عَظِيمةٌ تُحَرِّمُ العبدَ علَى النَّارِ ، فَفِي حَدِيثٍ عُتْبَانَ : " أنَّ اللهَ حَرَّمَ على النَّارِ مَن قالَ : لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بذلِك وَجْهَ اللهِ".
" لا إلَهَ إلا اللهُ " كلمةٌ عظيمةٌ ، " لا إلهَ إلا اللهُ " بِدَايَةُ الدَّعْوَةِ ،

" لا إلَهَ إلا اللهُ " هِي مُنْطَلَقُ الأنبِيَاءِ ، " لا إلَهً إلا اللهُ " مُنْطَلَقُ الحِوَارَاتِ ، " لا إلهَ إلا اللهُ " كلمةٌ نَحْيَا بِها ، ونَعِيشُ بِها ، ونَلْقَى بِها ربَّنا .
لا إلَهَ إلا اللهُ " أَعِيشُ بِها عُمرِي ، " لا إلهَ إلا اللهُ " أدخُلُ بِها قَبرِي ، " لا إلهَ إلا اللهُ ألقَى بِها رَبِّي ...
عبادَ اللهِ : إنَّ التَّوحِيدَ ليس شِعَاراتٍ تُرفَعُ ، ولا كَلِمَاتٍ تُذكَرُ فَقَطْ بل التَّوحِيدُ هُو العُبُودِيَّةُ التَّامَّةُ للهِ وحدَهُ، فَيَجِبُ أنْ تُحَقَّقَ هذِهِ الكَلِمَةُ في لَفظِها ومَعْنَاها. أي مَعْنى لا مَعْبُودَ بِحَقٌ إلا اللهٌ.
و مِن لَوَازِم هذِهِ الكَلِمَةِ العَظِيمةِ : " لا إلَهَ إلا اللهُ "، العَمَلُ بمقتَضَاها فَتُصبِحُ حياةُ المسْلِمُ كُلُّهَا للَّهِ صَلَاتُهُ وَنُسُكُهُ للَّهِ ﴿ قُلْ إِنَّ صلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )).
((قُلْ إِنَّنِي هَذَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )). تَوحِيدُ اللهِ في الاعتِقَّادِ، وتوحِيدُ اللهِ في العِبَادَةِ ، الشَّرائِعُ كُلُّها توحيدٌ.
يا أهلَ التَّوحِيدِ : التَّوْحِيدُ أَوَّلُ الدِّينِ وآخِرُهُ وظَاهِرُهُ وبَاطِنُهُ.
التَّوحيدُ أوَّلُ واجِبٍ وآخِرُ واجبٍ وأعظَمُ واجبٍ التَّوحيدُ يا أهلَ التَّوحِيدِ بِهِ تَنْطَلِقُ جميعُ الدَّعَوَاتِ، وبِهِ يَحْصُلُ الوَلاءُ والبَرَاءُ، بالتَّوحِيدِ يُعْصَمُ المالُ ويُعْصَمُ الدَّمُ، إنَّ التًّوحيدَ هُو أنْ تَجعَلَ دِينَكَ كُلَّهُ خَالِصًا للهِ عزَّوجلَّ .
أيُّها المؤمنون : تَأَمَّلُوا كِتَابَ رَبِّكُم ، لَقَد كانَتْ عِنَايَةُ القرآنِ بِتَوْحِيدِ اللهِ عَظِيمَةً ، فَهُو القَضِيَّةُ الكُبرَى وهُو القَضِيَّةُ الأسْمَى ، فالقرآنُ كُلُّهُ حَدِيثٌ عَن التَّوحِيدِ وبَيَان التَّوحِيدِ وحَقِيقَةِ التَّوحِيدِ والتَّعَلُّقِ
بالتَّوحِيدِ والدَّعوَةِ إلَيْهِ. إِنَّ النَّجَاةَ مُعَلَّقَةٌ في الدَّارَيْنِ بالتَّوحِيدِ .
وأمَّا السُّنةُ فَمُنذُ أَنْ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا محمدًا صلَ الله عليه وسلم وسِيرَتُهُ وَحَيَاتُهُ كُلُّهَا مِن أَوَّلِها إلى آخِرِها تَوحِيدٌ ؛ واستِشْعَارًا للتوحِيدِ سِلْمُهُ بأَبي هُو وأُمّي صلَ الله عليه وسلم بالتوحيد ، وحَرْبُهُ - بأبي هو وأُمِّي صلَ الله عليه وسلم - بالتَّوحيدِ ، فكانت دعوتُهُ كُلُّها توحيدًا ، في أَوِّلِ الطَّريقِ تَوْحيدٌ ، وفي أَوْسَطِ الطَّريق توحيدٌ ، وفي آخِرِ الطَّريق توحيدٌ.
يا أهلَ التَّوحيدِ : التَّوْحيدُ هو الغَايَةُ مِن خَلْقِ الْجِنِّ والإِنْسِ ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )).
أيُّها المؤمنون : التَّوحيدُ هو السَّبَبُ الأعظَمُ في تَفْريجِ الكُرُبَاتِ في الدُّنيا والآخرِة ، فإبراهيمُ عليه السلام يُلْقَى في النَّارِ وَلَمَّا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرَبِّهِ، قَالَ رَبُّنَا : (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم ) ، فَأَصْبَحَتْ النَّارُ الْمُحْرِقَةُ بردًا وسَلامًا على إبراهيمَ.
مُوسى عليه السلام بتوحيدِهِ رَبِّهِ يَقفُ عَدُوهُ مِن خَلْفِهِ والبَحرُ مِن أَمَامِهِ والجبالُ عَن يميِنِه وعَن شمالِهِ والبَحرُ مُتَلاطم، فيقولُ أصحابُهُ: يا مُوسَى إنَّا مُدْرَكُون، فَتَوسَّل مُوسَى إلى ربِّه، فكَانَ الجوابُ أنْ قالَ موسَى كلمَةً عَظِيمةٌ هَزَّتْ بِها الكَوْنَ كُلَّهُ: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينَ )
فَيُنْقِذُهُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن الغَرَقِ ويُهْلِكُ عَدُوَّهُ .
عبادَ اللهِ: والْحُوتُ يَلْتقِمُ يُونُسَ عليه السلام ، ويَتَوَسَّلُ يُونُسُ إلى ربّهِ بالتَّوحيدِ ويُنَادِي ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ))، فأَنْجَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بالتَّوحيدِ. ونَبِيُّنَا محمدٌ صلَ الله عليه وسلم تَجْتَمِعُ عليه قريشٌ كُلُّهَا بِخَيْلِهَا ورِجَالِهَا، فيَتَوكَّلُ على رَبِّهِ ويخرجُ مِن بينهم وهُم لَيْسُوا نَائِمِين، ولَكِنْ كمَا قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ : ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ )).
التَّوحِيدُ لهُ فوائِدُ عَظِيمَةٌ منها :
أنَّهُ يمنعُ الْخُلُودَ في النَّارِ ، بالتَّوحيدِ يَحْصُلُ لصَاحِبِهِ الأمْنُ التَّامُّ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )).
يا أيُها المؤمنون : صَاحِبُ التَّوحِيدِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ خَيْرِ النَّاسِ ، بالتَّوحِيدِ يُخَفَّفُ عَن العَبْدِ الْمَكَارِهَ ، بالتَّوحيدِ يَسْعَدُ العَبدُ ويَسْتَقِرُّ بذلك ، وهُنَا فَوَائِدُ جَمَّةٌ وعَدِيدَةٌ ولكنَّهَا إشَاراتٌ وحَسْبُك مِن القِلادَةِ ما أحَاطَ بالعُنُقِ .
ومِن أَجْلِ ذلك يا عِبَادَ اللهِ كَانَ التَّوحيدُ أَوَّلَ وَاجِبٍ وآخِرَ واجِبٍ "مَنْ كَانَ آخِر كَلامِهِ مِنْ الدُّنْيَا لا إلَهَ إلا اللهُ دَخَلَ الجنَّةَ"، ولا يُهْدَى إلى ذَلِك إلا مَنْ شَاءَ اللهُ لَهُ ، ثم عاشَ حيَاتَهُ مُعَظِّمًا لربِّهِ ..
بالتَّوحيدِ يَكُفُّ العبدُ عَن الْمَعَاصِي؛ لأنَّهُ يُعَظمُ رَبَّهُ جَلَّ وعلا، والْمُهِمُّ في التَّوحيدِ أنْ يحقِّقَ العبدُ ذلك، وهُو توحيدُ الإُلُوهِيةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفَاتِ، أمَّا توحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فلمْ يُنْكِرْهُ إلا قليلٌ، وكَمَا قالَ ربُّنَا ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين )) ، لابُدَّ أنْ يكونَ التَّوحيدُ وكَلامُنَا عَن التَّوحيدِ في كُلِّ مَكًانٍ وفي كُلِّ عَصْرٍ ومِصْرٍ.
الْحَجُ أيُها الإخوةُ كُلُّهُ مَبْنِيٌ على التَّوحِيدِ، فَحِينَمَا يَدْخُلُ الْمُسْلِمُ في الحجِّ يَبدَأُ بالتِّلْبِيَةِ بالتَّوحيدِ كمَا في حَدِيثِ جَابرٍ الطَّوِيلِ، " ثُمَّ أَهَلَّ بالتَّوحِيد ".
عبادَ اللهِ: ما كُلُّ ذلك إلا لِعِظَمِ الأمْرِ وخَطَرِ شَأْنِ قَضِيَّةِ التَّوحيدِ ولذلك اشْتَدَّ خوفُ النَّبِيِّ ﷺ من الخلَلِ في التَّوحيدِ، ولماذا لا يَشْتَدُّ الخوفُ على النَّاسِ مِن الزَّلَلِ والانْحِرَافِ والزَّيْغ ؟ لماذا لا يخَافُ الخلل في التَّوحيدِ ؟ وإمَامُ الموحِّدِينَ إبراهيمُ عليه السلام يَقولُ : ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَنْ تَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) .
قالَ إبراهيمُ التَّيْمِيُّ : "ومَن يَأْمَنُ البَلاءَ بعدَ إبراهيمَ".
لماذا لا يخَافُ الخللَ في التَّوحيدِ ؟ والشَّيَاطينُ بدَأَتْ تَتَرَصَّدُ لبني آدَمَ تُرِيدُ أنْ تُغْوِيَهُم وتَحْرِفَهم عَن الطَّريقِ، كَيفً لا يخَافُ الخلَلَ في التَّوحيدِ ؟ والنَّبِيُ ﷺ خَاطَبَ الصَّحابة الصَّفْوَةَ النَّقْوَةَ مِمَّنْ تَلَقَّوا الوَحْيَ غَضًّا طَرِيًّا، فَقَالَ ﷺ: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم الشِّرْكُ الأصْغَرُ )، ألا يَزِيدُ خَوْفُكَ يا عبدَ اللهِ حينَمَا تَسْمَعُ قَوْلَ المصطَفَى ﷺ : (" الشِّرْكُ في أُمَّتِي أَخْفَى مِن دَبِيبِ النَّمْلِ " ) .
عبدَ اللهِ : لقَدْ أَخبَرَ ﷺ أنَّ فِئَامًا مِن أُمَّتِي تَعْبُدُ الأَوْثَانَ، أَلا يخَافُ مِن الشِّركِ والشِّركُ يُحْبِطُ جميعَ الأعْمَالِ، ألا يخَافُ مِن الشِّركِ واللهُ تَعَالى يَقُولُ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )).
فلْتَكُنْ حَيَاتُنا كُلُّهَا تَوحِيدًا، وتحقِيقًا لتَوحِيدِ الإُلُوهِيَّةِ والأسمَاءِ والصِّفَاتِ، فالتَّوحيدُ أمرُهُ عَظِيمٌ، وشَأْنُهُ جَسِيمٌ بِهِ يُعْصَمُ الدَّمُ والمالُ:
(إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) .
اللَّهم اختِمْ حيَاتَنَا بالتَّوحيدِ، اللَّهم اختِم حيَاتَنَا بالتَّوحِيدِ، واجْعَلْ حَيَاتِنَا كُلَّهَا تُوحِيدًا لَكَ يَا رَبَّ العَالمين يَا أَكْرَمَ الأكْرَمِين.
أقولُ ما تَسمَعُون وأَستغْفِرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفِرُوهُ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ .
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا كَمَا يُحِبُّ ربُّنَا ويَرضَى، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ وسلَّم تَسليمًا كثيرا. أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ يا عبادَ اللهِ، واعلَمُوا أنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ أَجمَل مَا أَسْرَرتُم وأَحْسَنُ مَا أَظْهَرتُم رَزَقَنا اللهُ وإيَّاكُم حُسْنَها.
عبادَ اللهِ: يَتَصَوَّرُ بعضُ النَّاسِ أنَّ الشِّركَ مُنْحَصِرٌ علَى إيجادِ شَرِيكٍ للهِ، كَأَنْ يَعْبَدُ صَنَمًا فَقَطْ نَعَمْ هَذَا مِن صَمِيمِ الشِّركِ، ولَكَنْ كَمْ في عَالَمِنَا الإسْلامِيِّ مِن أَضْرِحَةٍ تُعَظِّمُ مِن دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تُدْعَى وَتُرْجَى مِن دُونِ اللهِ، وتَجْعَلُ وَسَائِط مِن دُونِ الله عزَّ وجلَّ، بلْ يُبْكَى عِندَها مَا لم يُبْكَ في غَيرْهَا، وتُقَدَّمُ لها النُّذُورُ والقَرَابِينُ، فما بَقِي لِرَبِّهِم ؟.
يَجْعَلُونَها وَسَائِطَ مِن دُونِ اللهِ، وحينَمَا تُكَلِّمُهُم يَقُولُونَ: "نحن يجعَلُها وَسَائِطَ بينَنَا وبَينَ اللهِ؛ لأنَّ لهم منزلةً عندَ اللهِ"، والجوَابُ عَن هَذَا : هَذِهِ هِي حُجَّةُ الْمشرِكِينَ باختِصَارٍ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَا تَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرُبُونَا إِلَى اللهِ زُلفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) .
واللهُ لا يَحْتاجُ إلى وَسائِطَ تُدْعَى مِن دُونِهِ، بَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُدْعَى مُبَاشَرَةٌ، قالَ تعالى في وَصْفِ حَالِ هَؤُلاءِ : ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْل خَبِيرٍ )) .
عبادَ اللهِ: إنَّ مِن الخلَلِ في التَّوْحيدِ عَدَمَ إخلاصِ العِبادَةِ للهِ فَتَكُونُ العبادَةُ مِن أَجْلِ مَنْصِبٍ أو جَاهٍ أو ثَنَاءٍ مِنَ النَّاسِ، واللهُ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَن الشِّرْكِ.
عِبَادَ اللهِ: الشِّرْكُ أمرُهُ خَطِيرٌ وَدَقِيقٌ، مَن أَعْطَى حُبَّهُ لِغَيرِ اللَّهِ فَعَظَمَ مَحْبُوبَهُ فَقَدْ وَقَعَ في الشِّرْكُ، مَن أَعْطَى حُضُوعَهُ وذُلَّهُ لغَيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ فقَدْ وَقَعَ في الشِّرْكِ، ومَن صَرَفَ شيئًا مِن العبَادَاتِ لغَيرِ اللهِ فَقَدْ أشْرَكَ، قالَ تعالى : (ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ ليُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ).
فانظُرُوا يا رعَاكم اللهُ إلى مَن وَقَعَ في السِّحْرِ والشَّعْوَذَةِ والتَّطَيٌرُ والتَّشَاؤُمُ فَقَدْ وَقَعَ في الشِّرْكِ، ومَن حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ بالأمَانَةِ والنِّعْمَةِ والأولادِ والصِّحَّةِ والشَّرَفِ والْكَعْبَةِ والنَّبِيٌ فَقَدْ وَقَعَ في الشِّركِ؛ لأنَّهُ لا يُحْلَفُ إلا باللهِ
مَن استَهْزَأَ بِشَرعِ اللهِ أو رَضِيَ بالاستِهْزَاءِ أو ضَحِكَ مَع مَن يَضْحَكُ مِمَّن يَسْتَهزِؤُون بِشَرْعِ اللهِ أو بِآيَاتِ اللهِ وبِرَسُولِهِ وبالصَّالحِيِن فقَدْ كفر. مَن أَنْكَرَ البَعْثَ أو عَذَابَ القَبْرِ فَقَدْ كفر، ومَن وَإلَى أَعْدَاءَ اللهِ مِن الكُفَّارِ وغَيْرِهم فَقَدْ كَفَرَ قالَ تَعَالى: ﴿وَلَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )).
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُود والنصارى أولياء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )).
عبادَ اللهِ: فلْنَحْذَرْ مِن الشِّرْكِ ولْنُحَافِظْ علَى التَّوحِيدِ، وقَدْ يَسأَلُ سَائِلٌ : كيفَ نُحَافِظُ علَى التَّوحِيدِ ؟.
أولًا : التَأَمَّلُ في آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، والتَّفَكُّرُ في مخلُوقَاتِهِ .
ثانيًا : قراءَةُ آياتِ التَّوحِيدِ ، والرُّجُوعُ إليها في كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَوْثُوقَةِ، كَتَفْسِيرِ ابنِ كَثِيرٍ، والسَّعْدِي ، والتَّأَمُّلُ فيها.
ثالثا : قراءَةُ الكُتُبِ في التَّوحِيدِ وعلَى رَأْسِها: الجوْهَرَةُ الثَّمِينةُ (كِتَابُ التَّوحِيدِ) لشَيْخِ الإسلامِ محمدٍ بنِ عبدِ الَوهَّابِ ...
رابعا : حُضُورُ الدُّرُوسِ الَّتِي تَعْتَنِي بِهَذَا.
خامسا : دُعَاءُ اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُثِّبتَ الإنْسَانَ علَى التَّوحِيدِ .
سادسا : قِرَاءَةُ الفَتَاوَى الَّتِي تَعْتَنِي بِهَذَا الْجَانِبِ، فاحْرِصُوا يا عبادَ اللهِ علَى كُلِّ هذا ، واحْرِصُوا يَا رَعَاكُم اللهُ علَى حِفْظِ تَوْحِيدِكُم .
ثم صَلُّوا علَى إمَامِ الْمُوَحَدِينَ وحُجَّةِ اللهِ علَى العَالمين نَبِيِّنا محمدٍ عليهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وأَتَمُ التَّسْليِمِ. اللَّهم صلِّ وسَلِّمْ علَى عَبدِكَ ورَسُولِك محمدٍ، وارْضَ اللَّهم عَن الْخُلَفَاءِ الأرْبَعَةِ وعَنْ سَائِر الصَّحابَةِ أجمعِين وعَنَّا مَعَهُم بِفَضْلِك وإِحْسَانِك يا ذا الجلالِ والإكرامِ .
اللَّهم إنَّا نَسْأَلُك أنْ تَخْتِمَ حَيَاتَنَا بالتِّوحِيدِ ، اللَّهم اجعَلْ آخِرَ كَلامِنَا مِن الدُّنْيَا لا إلَهَ إلا اللهُ محمدٌ رسُولُ اللهِ ، اللَّهم احشُرْنَا في زُمْرَةِ الْمُوَحِّدين يَا رَبَّ العَالَمِين ، اللَّهم انْصُرْ عبادَكَ الموحِّدين في كُلِّ مَكانٍ .
اللَّهم وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لما تحِبُّ وتَرضَى ، وخُذ بِنَاصِيَتِهِ للبِرِّ والتَّقْوَى وأَعِنْهُ على أُمُورِ دِينِهِ ودُنْيَاه يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللَّهمَّ اغفرْ لآبائِنا وأمهاتِنا، واجزِهِم عمَّا قدَّموا لنا مِن خيرٍ يا ذا الجلال والإكرام ، اللَّهم إنَّا نسألُك الْهُدى والتُّقى والعفافَ والغنِى يا ذا الجلال والإكرام.
عبادَ اللهِ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ))
فاذْكُرُوا اللهَ الجلِيلَ يَذْكُرْكُم، واشْكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ واللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .

المرفقات

1753397026_‎⁨خطبة التوحيد⁩.pdf

1753398324_‎⁨… خطبة التوحيد⁩.docx

المشاهدات 92 | التعليقات 0