عندما يقبض العلم 4/4/1447
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله رب الأرض والسماء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعز من يشاء ويذل من يشاء وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الخلق وصفوة الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله ربكم واتقوا الله ويعلمكم الله واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
وعاشت البلاد لحظات عصيبة وهي تودع عالما من علمائها وعلما من أعلامها فرسمت أجمل المشاعر وسطرت صفحات من الحب والوفاء، حشود تشيع ، وألسن تلهج بالدعاء ومجالس تعج بالثناء
إن تفاعل الأمة رعاة ودعاة ورعية مع رحيل علم عالم والذي تجسد في مشاعر الناس قولا وفعلا لهو يبعث إلى الناس رسالة عنوانها [يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ
أجل إنه العلم الشرعي، العلم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، والعلوم المقصودة المتعلقة بالأعمال والعقائد والأخلاق والمعاملات هذه العلوم هي التي تنشئ في النفس بفضل الله العلم بالله عز وجل وتدفعه إلى الورع والى توقي أماكن الهلاك.
إن العلم الشرعي هو الأساس الذي يبني العقل ويوسع المدارك ويربي الخلق وما ظهرت الغثائية في مجتمعات المسلمين وانتشرت الهشاشة الفكرية إلا بعد أن هجر العلم الشرعي وأصبح عند بعضهم مجرد ترف كمالي يصرفهم عنه أدنى صارف.
إن العلم الشرعي هو الذي رفع أقواماً ليسوا بذي جاه ولا نسب ولا ثراء ولا حسب، يهابهم الملوك ويعظمهم الناس، قال الحجاج لخالد بن صفوان: من سيد أهل البصرة؟ فقال له: إنه الحسن، فقال: وكيف ذلك وهو مولى؟ فقال: احتاج الناس إليه في دينهم واستغنى عنهم في دنياهم وما رأيت أحداً من أشراف أهل البصرة إلا يروم الوصول في حلقته يستمع قوله ويكتب علمه، فقال الحجاج: هذا والله السؤدد.
العلم الشرعي لازم من لوازم الدعوة وشرط من شروطها، العلم الشرعي مهم في صحة العمل وسلامته من الآفات وحماية الدعوة من الانحرافات، كما قال ابن القيم: العلم إمام العمل وقائد له والعمل تابع له ومؤتم به، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح.
العلم الشرعي من أكبر الدوافع للداعية إلى السعي في نشر الخير وتعليم الناس، فكلما كثر علمه كان أقدر على التأثير وأمكن في التعليم.
العلم الشرعي ضرورة للتمييز بين الحق والباطل في الاعتقادات والصواب من الخطأ في المقولات، والمسنون من المبتدع في العبادات والحلال والحرام في التصرفات، والصحيح من المفاسد في المعاملات والفضيلة من الرذيلة في السلوكيات، والمقبول من المردود في المعايير، والراجح من المرجوح في الأقوال والأعمال.
العلم الشرعي سد منيع وحاجز رفيع للوقاية من شرور الشهوات والشبهات والتي غزيت بها قلوب وعقول شبابنا اليوم.
ليس المقام مقام مدح وثناء للعلم والعلماء، فكيف تقدر الأقلام على وصف قوم أشركهم الله معه في أعظم شهادة [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ] وجعلهم من أهل خشيته [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ]
وكيف ستوفى الكلمات والعبارات في وصف الحياة والنور والعز والمفاخر والوقاية من الشرور، فحسب العلم الشرعي أن يكون ميراث النبوة.
إن مما يؤسف له أن يجد العلم الشرعي في هذا الزمن زهداً وجفاء، ويوسم أهله بالجحود والتخلف والانغلاق ويوصف دارسوه بالفشل، وتغلق أمامهم أبواب الأمل والعمل
من المؤسف أن يكون دارس الشريعة يتوارى من القوم ويتحدث عن تخصصه على استحياء بينما يبجل دارس الطب والهندسة ولو كان فاسقاً. إن هذا لشيء عجاب. العلم الشرعي مبتلى بهجر الصالحين له وبُعدهم عن حلقاته وزهدهم في قنواته.
ومبتلى بفئة من المتعالمين أهل الأهواء والعصرنة الذين غرقوا في بحر الكتب الفكرية وتسمموا بأفكارها فشغلتهم عن العلم الشرعي النافع، بل دفعتهم إلى التزهيد به، فترى أحدهم يتشدق ويتفيهق ويتحدث بأساليب غامضة ويحفظ سدنة الثقافة الغربية ويردد مقولات رموز الحداثة ودهاقنة العلمنة، ولا يحفظ أركان الصلاة ثم تراه يخوض في بحر الحلال والحرام ويفتري على الله الكذب.
حينما قل العلم الشرعي وعز رواده ظهر أرباب الشبهات يخوضون في دين الله ويشككون في المبادئ والثوابت ويوردون الشبهات حتى تركوا الناس مذبذبين.
حينما قل العلم الشرعي وزهد فيه الناس ظهر دعاة الترخص وأتباع الشذوذات
وحينما قل العلم الشرعي كثر تتبع الزلات، فمن أخطر المزالق تتبع زلات الأئمة الأعلام والفرح بها، وطلب السمعة والشهرة بالرد عليها وتضليلهم والحط من شأنهم أو الدعوة إلى العزوف عن كتبهم أو إحباط محاسنهم وجحود فضائلهم
وحينما ضعف العلم الشرعي ظهر التعالم وتصور الأحداث فترى متعالما صريع الجهل متشبعاً بما لم يعط ينصب نفسه مرجعاً للفتيا ويتملكه العجب فيلمز أكابر العلماء والدعاة ويفري بأعراضهم ويسفه أقوالهم فيصد الناس عن سبيل ربهم بصدهم عن الأدلاء عليه.
إن في الساحة اليوم من يغوص في أوحال السب والشتم والتجريح وينتدب نفسه للوقيعة في أئمة كرام اتفقت الأمة على إمامتهم وهو لا يدري أنما ذلكم الشيطان يستدرجه إلى وحل العدوان وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ويتوهم أنه يؤدي ما قد وجب شرعاً.
إنه إذا خلت الساحة من أهل العلم والتقى اتخذ الناس رؤوسا جهالاً يفتونهم بغير علم، وإذا أفتوهم بغير علم فلا تسأل عن الحرمات التي تستباح والدم المعصوم الذي يهراق والعرض الذي ينتهك والمال الذي يهدر، ونظرة عادلة إلى واقع بعض بلاد المسلمين تنبئك عن مخاطر تغييب العلماء.
إن العلماء هم عقول الأمة، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرة بالبقاء.
وإذا ضعف العلم الشرعي ضعف الجانب العبادي، وكم أحدثت النزعة العلمية البحتة والقراءة الفكرية المجردة في بعض القلوب من قسوة وجلافة ومن سوء خلق وصلافة، بل ورقة في الديانة ووهن في العبادة.
وعندما ضعف العلم الشرعي نطقت الرويبضة وتكلم السفيه في أمر العامة، وصارت أحكام الإسلام حمى مباحاً يخوض فيه كل جاهل ومتعالم، فهذا يقول، وجهة نظري أن هذا حلال وذاك يقول: أرى أن هذا ليس بحرام، ومن أنتم حتى يكون لكم رأي.
هكذا تكون الحال حينما يضعف العلم الشرعي ويزهد فيه الصالحون. فهل يبعث هذا فينا الحماس لنحيي مجالس الذكر ونعمر حلقات العلماء ونرتع في رياض الجنة، فنسأل الله عز وجل همة عالية لا ترضى بالنقائص، ونسأله علما نافعاً وعملاً صالحاً
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
أما بعد:
إن من المسلمات المعروفة أن العلماء الربانيين لم يطلبوا العلم براحة النفس والجسد، ولم تكن مجالسهم شكلية تضيع في القيل والقال بل ذاقوا أنواع المعاناة والمشقة والصبر، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة
في سبيل العلم هجروا النوم والراحة والدعة وسائر اللذات.
في سبيل العلم صارعوا الفقر والجوع والسهر، وتحملوا الغربة والسفر، همم لايوقفها الشيب ولا طول العمر.
همم في طلب العلم حتى آخر رمق لا تتوقف إلا مع سكرات الموت. ولهم في ذلك مواقف وأحداث تعجز عن تصويرها السطور
تأمل حال أسلافنا ثم انظر حالنا في طلب العلم تجد شيئاً عجباً وكأنك تتدحرج من قمة جبل شامخ سامق إلى قعر واد سحيق.
قلب بصرك هنا وهناك، وانظر في نفسك والى طلاب العلم من حولك، أترى في حالنا ما يوازي أو يقارب ما سمعت أو قرأت عن سلفنا، وما هي هموم طلاب العلم وتطلعاتهم كم هي تلك المباحات التي توسع فيها أكثرنا حتى أصبحت علامة تميزنا.
من ذا الذي يملك الصبر والجلد على البحث والمدارسة والتنقيب في بطون الكتب بلا كلل ولا ملل.
من ذا الذي يملك طول النفس، والقدرة على سهر الليالي ذوات العدد للتفكر والاستنباط.
إن العلم بحر واسع بعيدة أطرافه عميقة قيعانه، لن يبحر فيه إلا الأشداء، ولن يصل المرء فيه إلى لآلئه المكنونة وجواهره المخزونة وهو لم يضع قدميه بعد على شاطئه القريب، والمكارم منوطة بالمكاره والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر المشقة فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.
فيا شباب الإسلام، يا أهل الهمم العالية، الأبواب اليوم مشرعة والحلقات العلمية عامرة، فهل تتوجه قوافلكم لتحيي هذه الحلقات وتعمر هذه الدروس، وهل تثنى الركب وتعلو الهمم للوصول إلى القمم.
هكذا كان أسلافنا، وهكذا فلتكن أجيالنا، ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمنا وزدنا علماً.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المرفقات
1758809629_عندما يقبض العلم.doc