نداءات المجرمين
سامي بن محمد العمر
نداءات المجرمين
أما بعد:
ستة نداءات وحوارات.. نعوذ بالله منهن ومن أن ندركهن..
ستة نداءات وحوارات.. ملؤها الحسرة والندم، والعذاب والألم.
نداءات وحوارات.. قص الله علينا خبرها قبل حصوله، وأطلعنا على تفصيله قبل وقوعه.
واللبيب منا والحصيف: هو من ينظر لها نظر المعتبر، ويتأمل فيها تأمل المتعظ، ثم ينجو بنفسه من أسباب الهلاك، ويفر بدينه من مواضع البلاء.
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]
ذلك أن الله لم يفرط في الكتاب من شيء يهم العباد إلا دلهم عليه، ولا من شيء يضرهم إلا حذرهم منه، ونوّع لهم أسلوب الموعظة والتذكير، وخطاب الزجر والنكير، فلم يبق لهم بعد ذلك على الله حجة، وقد أبان لهم السبيل والمحجة.
ومن ذلك: أن الله تعالى قد عرض لعباده جملة من أحوال المجرمين في الآخرة، وما يقولون وما سيقال لهم، وما يتمنون وما سينالهم، فأبان لنا في كتابه الكريم أن للمجرمين حينذاك ستة نداءات ومحاورات؛ يلين منها القلب القاسي، ويتذكر بها الفكر الغافل اللاهي:
أولها: نداءاتهم لرب العالمين، ومحاورته لهم:
*{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } [المؤمنون: 99 - 111]
ففي قوله (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)
أن العمل الصالح أمنية كل ميت من مؤمن وكافر، أما المؤمن فلعله أن يزداد به رفعة عند الله، وأما الكافر فلعله ن ينجو به من عذاب الله.
وفي قوله (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ)
أن أكبر إجرام يجرمه المرء في حق نفسه حين لا يُطوعها لأوامر الله، ولا يقودها بآياته.. بل يُغلب عليها شِقوته؛ أي: لذته وشهوته([1]) واجتهادات البشر وتخبطاتهم.
ويقوده ذلك إلى جريمة أخرى تغضب الله، وهي السخرية من عباده المؤمنين المتمسكين بشرعه في أزمنة الفتن والبلاء (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ).
وأما عاقبة هذه النداءات المتكررة لربهم سبحانه فقولهم (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) وقولُهم (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) وقولُهم (فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) فما تظنون أن يكون الجواب؟
(قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) يقول الشيخ السعدي رحمه الله: " وهذا القول - نسأله تعالى العافية- أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب، والتوبيخ، والذل، والخسار، والتأييس من كل خير، والبشرى بكل شر، وهذا الكلام والغضب من الرب الرحيم، أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم"([2]).
وثاني تلك النداءات: مع خزنة جهنم:
{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) } [الزخرف: 77]
فههاهم يسألون الخزنة أحد هذين الأمرين: إما الهلاكَ المطلق بالموت، وإما التخفيفَ من العذاب ولو يوما واحداً!
فيجيئ الرد: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } [فاطر: 36]
فما أقسى أن يكفر المرء نعم الله عليه، وما أعظم أن يرد أوامر الرسول المرسل إليه، وما أبشع أن يكره الحق الذي جيء به إليه؛ والله تعالى يقول {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}.
وثالث تلك النداءات والحوارات: مع الكبراء المطاعين
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } [غافر: 47] {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31، 33] }
وحكاية هذا الحوار كافية في بيان خطورة الطاعة العمياء للكبراء فيما يأمرون به من معصية والكفر به، فما هم بحاملين عن أتباعهم نصيبا من النار، وما هم بالمعترفين أصلا بذلك الانقياد الأعمى... وحينها يُسر الاتباع الندامة من غلبة القهر، وتنقطع الحجة من هول العذاب.
ورابع تلك الحوارات والنداءات: مع الشيطان القرين
فإن المعرض عن ذكر الله وأوامره، والغافل عن تذكر الله في كل شؤونه وأحواله؛ يفتح الباب لتسلط قرينه من الشياطين كما قال الله تعالى:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [الزخرف: 36 - 39]
وسوف يتنصل القرين كذلك من قرينه؛ فوا أسفا على تلك الزمالة وذلك الاقتران:
{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فخامس تلك الحوارات: حوار المرء مع أعضائه
حين يكون شاهدك منك عليك؛ {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت: 19، 21]
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله فضحك فقال:" هل تدرون مم أضحك" قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:" من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجزني من الظلم قال: يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله قال ثم يخلى بينه وبين الكلام قال فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل".
وأخيرا: حيث لا تنفع كل تلك المحاولات السابقة للنجاة؛ يرجع المجرمون إلى بني جنسهم الذين كانوا منهم يسخرون وبهم يستهزئون، ولهم يظلمون ويؤذون..
يرجعون إلى أهل الجنة بسادس النداءات:
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}
ما أسهل الطلب... والخير في الجنة وفير، والعطاء فيها جزيل؛
ولكن: تنبه أيها المجرم على نفسه بالكفر والمعاصي، أيها المسرف في الذنوب والخطايا، أيها الغارق في الفتن والبلايا، أيها المغرور بالدنيا الدنية، أيها المتخذ للدين مطية، أيها اللاهي في الحياة، أيها اللاعب بأوامر مولاه..
تنبه لرد أهل الجنة عليهم، وعقوبة الله لهم {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 50، 51]
([1]) فتح القدير للشوكاني (3/ 590)
([2]) تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 560)
المرفقات
1763052621_نداءات المجرمين.pdf
1763052637_نداءات المجرمين.docx